بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

وراء كل بروتوكول عُماني قصة إنسانية تفيض بالسمت العماني لم تُحكَ من قبل

الكاتب أ. عصام بن محمود الرئيسي
مدرب بروتوكول ومراسم – مؤلف أعمال متخصصة في المراسم والتشريفات

 

قبل أن ندخل في تفاصيل هذا المقال، دعونا نبدأ بحكاية عزيزي القارئ “ففي أحد الأعوام، كانت سلطنة عمان على موعد مع زيارة رسمية قصيرة لوزير أجنبي .. كان برنامج الزيارة دقيقًا ومزدحمًا، وفريق المراسم مستعدًا لكل خطوة: الاستقبال، التحية الرسمية، الانتقال إلى قاعة الاجتماع، ثم المؤتمر الصحفي. كل شيء جاهز وفق أعلى مستويات الانضباط.، وصل الموكب، واصطف المستقبلون بدقة بروتوكولية. نزل الضيف من سيارته، فتقدّم المسؤول العُماني لاستقباله، صافحه في اللحظة المقررة، وتوجها بخطى هادئة إلى داخل المبنى. حتى الآن… كل شيء يسير وفق البروتوكول العالمي،
لكن اللحظة الفارقة جاءت عند مدخل القاعة.

كان الجو حارًا نسبيًا، والوزير الأجنبي بدا مرهقًا بعد رحلة طويلة، التقط المسؤول العُماني ذلك بمجرد نظرة. وهنا ظهر السمت العُماني الذي لا يُدرَّس في كتب البروتوكول ولكنه يُمارس بالفطرة، قبل أن يجلس الضيف، استأذن المسؤول بلطف وقال: “معاليكم، قبل أن نبدأ الاجتماع… نود أن نأخذكم إلى ركن بسيط داخل المجلس، ستجدون فيه ما يليق بكم كضيف على عُمان.” تفاجأ الوفد، لكنهم تبعوه. لم تكن حركة في جدول الزيارة، ولم تكن ضمن الترتيبات المكتوبة، لكنها كانت محسوبة بدقة.

قادهم إلى زاوية تراثية صغيرة داخل المبنى، جهزها الفريق مسبقًا. هناك، كان بانتظارهم شاب من فريق الاستقبال يحمل دلة القهوة العُمانية وفناجين، ويقف بالطريقة التي تجمع بين الوقار والانضباط، قدّم المسؤول العماني بعد أن تناوله من الشاب الذي يغنم القهوة بنفسه الفنجان الأول للوزير الضيف، وقال له بابتسامة عُمانية خفيفة: “في عُمان، نتعرّف على ضيفنا من أول فنجان… ثم نبدأ الحديث.”.

هنا انكسر التوتر تمامًا، وشعر الوفد بسعادة واضحة وتأثر بالموقف العُماني الكريم والبسيط لكنه العميق”.

عزيزي القارئ .. في عالم العلاقات الرسمية، يكون البروتوكول عادةً لغة عالمية مستقرة، تحكمها قواعد متفق عليها، وحدود يتعامل من خلالها أصحاب المناصب والضيوف الرسميون والمؤسسات الكبرى. ورغم أن هذه القواعد قد تبدو جامدة أو تقنية في ظاهرها، إلا أنها تكتسب في سلطنة عُمان روحًا مختلفة حين تختلط بالسمت العُماني الأصيل؛ ذلك السمت الذي يجمع بين الوقار والبساطة، وبين الهيبة وطيب المعشر، وبين الانفتاح على العالم والارتكاز على الجذور العميقة للهوية العُمانية.

إن الحديث عن امتزاج البروتوكول بالسمت العُماني هو حديث عن لقاء عالمين: عالم المراسم الرسمية الذي يقوم على الانضباط والدقة، وعالم الإنسان العُماني الذي يقوم على الكرم واللطف والاحترام وتقدير الضيف. وما بين العالمين، تولد ممارسة فريدة، تجعل من البروتوكول في عُمان ليس مجرد إجراءات، بل تجربة إنسانية تشعر الضيف بأنه مرحّب به قبل أن يكون مُستقبلاً وفق المراسم مجردة.

يظهر هذا الامتزاج بشكل واضح في تفاصيل الاستقبالات الرسمية. فمنذ دخول الضيف إلى المطار أو مقر الاستقبال، تبدو الروح العُمانية واضحة: ابتسامة هادئة، كلمات ترحيب قليلة ولكنها صادقة، خطوات محسوبة تعكس الانضباط ولكن غير المتكلّف، ومرافقة للضيف بلطفٍ لا يخلّ بهيبة المناسبة. هنا تتجلّى معادلة السمت العُماني: البساطة التي لا تسقط الهيبة، والمروءة التي لا تُخرج البروتوكول عن مساره.

ويتعدى هذا الامتزاج لحظة الاستقبال ليصل إلى الجلسات الرسمية والزيارات الميدانية. فالعُماني، بطبيعته، يميل إلى خلق جو من الألفة دون الإخلال بمقام الضيف أو بقواعد الجلسة. قد يقدّم للضيف معلومة ثقافية، أو تعليقًا لطيفًا، أو يشرح تقليدًا ما بطريقة تجمع بين الاحترام والفخر، فيشعر الضيف بأن البروتوكول ليس حاجزًا، بل جسرًا للتواصل. وهنا يتأكد أن البروتوكول هو الإطار، لكن الهوية العُمانية هي الروح التي تعطيه الحياة.

أما في المآدب الرسمية، فيبرز السمت العُماني بشكل أكثر وضوحًا. فبينما تفرض قواعد الضيافة الرسمية ترتيبًا محددًا للمقاعد والأطباق والدعوات، يأتي السمت العُماني ليضيف لمسته: اختيار أطباق محلية أصيلة، تقديم القهوة العُمانية في لحظة محسوبة تجعل الضيف يشعر بقيمة استثنائية، إتاحة الحيز الكافي للضيوف للتبادل الودي بعيدًا عن أي مبالغة. إن القهوة العُمانية وحدها تُعد جزءًا من بروتوكول غير مكتوب، لكنها تحمل من الدلالة أكثر مما تحمله عشرات التوجيهات الرسمية؛ فهي إعلان عن الترحيب، وعن الاحترام، وعن الانتماء لثقافة ترى الضيف “ضيفًا قبل أي صفة أخرى”.

كما يظهر الامتزاج بين البروتوكول والسمت العُماني في التواضع الرسمي الذي تتميز به السلطنة. فالمسؤول العُماني، مهما علت درجته، لا يُظهر ما يُشعر الضيف بالمسافة. يقف بتوازن، يحيّي بتواضع، يستمع باهتمام، ويُبعد عن نفسه التكلف الذي قد يراه البعض جزءًا من البروتوكول. هذا التوازن بين الهيبة والتواضع هو ما يجعل المراسم الرسمية في عُمان مريحة للنفس، وذات طابع إنساني لا يُنسى.

ويتجلّى السمت العُماني أيضًا في التعامل مع الاختلاف الثقافي للضيوف. فاحترام خصوصيات الآخر جزء أصيل من أخلاق الإنسان العُماني. قد يعتذر الضيف عن مصافحة، أو يفضّل ترتيبًا معينًا في الجلوس لكن دون الأخلال بالثوابت المراسمية الدولية، أو يتبع طقسًا ثقافيًا معينًا؛ ومع ذلك يُقابل هذا بحفاوة واحترام دون أي إرباك للبروتوكول. هنا تتأكد المرونة العُمانية، حيث تُضبط المراسم لتحتوي الضيف، وليس ليحتوي الضيف عليها.

وعندما نصل إلى الأزياء الرسمية، نرى صورة مكتملة لهذا الامتزاج. فالكمة العُمانية والدشداشة ليست مجرد لباس وطني، بل تحمل دلالة عميقة على الفخر والهوية والاستقرار. وعندما تُرتدى في المحافل الرسمية، فإنها لا تزيّن مشهد البروتوكول فقط، بل تمنحه أصالة وخصوصية لا تتكرر. إن حضور الهوية البصرية العُمانية في المناسبات الرسمية هو حضور دولةٍ وذاكرةٍ وثقافة.

وفي النهاية، يمكن القول إن امتزاج البروتوكول بالسمت العُماني ليس عملية مقصودة أو مصطنعة، بل هو سير طبيعي لأمة اعتادت أن تُكرم ضيوفها دون تكلف، وأن تحترم نفسها دون مبالغة، وأن تمارس البروتوكول بروح لا تفرّط في الأناقة ولا تفارق الأصالة. ولهذا، فإن التجربة العُمانية في البروتوكول تبقى نموذجًا فريدًا؛ نموذجًا يجمع بين النظام والإنسان، بين الرسمي والإنساني، وبين الإطار العالمي والروح المحلية. وهنا يصبح المعنى واضحًا: البروتوكول هو الإطار… والهوية العُمانية هي الروح.

وعلى الخير وبالذوق الرفيع نرتقي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى