
قانون الجمعيات الأهلية .. بين الماضي العالق والمستقبل المنتظر
خـالـصـة الصـلـتـية
هناك أوقات مفصلية في عمر الدول تصبح فيها النصوص عبئاً أكثر من كونها إطاراً ينظم الحياة. أوقات يتسع فيها الواقع حتى يفيض عن صفحات القانون، فيبدو وكأن التشريع يعيش في زمن، والمجتمع في زمن آخر. وفي زمن تتسارع فيه خطى التنمية، وتتشابك فيه الأدوار بين الدولة والقطاع الخاص، يبرز المجتمع المدني بوصفه الذراع الثالثة التي لا يكتمل البناء الوطني من دونها؛ ذراع تحمل مسؤولية توعية المجتمع، وتمكينه، ورصد أولوياته الحقيقية، وتسد الفجوات التي لا تصل إليها المؤسسات الرسمية في الوقت المناسب.
ورغم هذا الدور الحيوي، لا يزال الكثير من الجمعيات يتحرك على أرض رخوة، ويقف على أساس قانوني لم يعد قادرًا على حمل أحلامه ولا على استيعاب توسّع مسؤولياته.
فالجمعيات اليوم لم تعد مجرد لجان تطوعية تنظم نشاطًا وتوزع دعمًا؛ بل أصبحت كيانات تدير أموالًا، وتبني شراكات، وتقود مبادرات تنموية، وتتحمل مسؤوليات قانونية ومالية كبيرة. إنها جزء من النسيج الوطني، شريكٌ في التنمية، وامتداد لجهود الدولة… لكن القانون الذي ينظمها ما زال ينتمي إلى زمن آخر.
هذه الفجوة التشريعية كشفت نفسها بوضوح في تحديات القطاع الأهلي: غموض في المسؤوليات، ضعف في الحوكمة، تفاوت في مستوى الكفاءة الإدارية، محدودية في الاستدامة، وتراجع في ثقة المجتمع تجاه بعض النماذج التي بقيت أسيرة العمل الموسمي والعشوائي. وكل ذلك يوضح حقيقة واحدة لا يمكن تجاهلها :
القانون هو بداية البناء، وهو الذي يرفع سقف الأداء عندما يكون محكمًا وواضحًا ومواكبًا للواقع.
وعندما نرفع أبصارنا إلى المشهد العالمي، نجد نماذج ملهِمة تؤكد أن العمل الأهلي حين يُدار بعقلية مؤسسية يصبح قوة تنموية هائلة. منظمات مثل Oxfam International وCARE International وWorld Vision International وSave the Children وMercy Corps وHabitat for Humanity وInternational Rescue Committee—جميعها كيانات عالمية تمتد عبر القارات، وتُدار بمهارات عالية، وخبرات متراكمة، ونظم حوكمة صارمة. لم تصل هذه المؤسسات إلى التأثير العالمي بالحماس وحده، بل بالعلم، والتخطيط، والقيادة المؤهلة، والعمل المنظم الذي يحوّل الجهد الفردي إلى أثر مؤسسي عابر للحدود.
ومن هنا تبرز ضرورة أن يكون القانون الجديد الذي نترقبه أكثر صرامة في شروط قيادة الجمعيات. فالحماس لا يصنع مؤسسة، والنوايا لا تبني أثرًا. الجمعيات تحتاج إلى مجالس إدارة تمتلك مؤهلات علمية حقيقية—حدّها الأدنى شهادة البكالوريوس—وإلى خبرة عملية في الإدارة أو العمل الاجتماعي أو التنموي. فالمؤهل يمنح المعرفة، والخبرة تمنح الحكمة، والجمع بينهما هو الذي يصنع القرار الرشيد ويضمن أن تُدار الجمعيات بعقل يقود وقلب يلتزم.
ويجب أن نعي أن الجمعية ليست إطارًا اجتماعيًا للظهور، ولا ساحة للمجاملات، بل مؤسسة تنموية لها وزن ومسؤولية. إنها كيان يخطط وينفذ ويدير موارد عامة، ويرتبط بتطلعات المواطنين. وهذا الدور لا يليق أن يُدار بردود الفعل أو النوايا، بل بقدرة مهنية تقود، وتفكير مؤسسي يصنع الأثر، وقيادة تجمع بين العلم والخبرة في آن واحد.
وإذ وضعت رؤية عُمان 2040 المجتمع المدني شريكًا في مسار التنمية الوطنية، وأعطته دورًا أساسيًا في تمكين المجتمع، فإن هذا الدور لن يتحقق ما لم يمتلك القطاع الأهلي أدوات القيادة التي تليق بمسؤولياته، وما لم يرتفع سقف التشريع ليواكب حجم التطلعات. فلا يمكن لقطاع يطمح إلى صناعة أثر وطني أن يُدار بعقلية قديمة أو مؤهلات ضعيفة.
إن مستقبل الجمعيات يبدأ من القانون، ومن الإرادة التي تصنعه، ومن الإيمان بأن العمل الأهلي ركيزة أساسية في بناء الدولة. وإن مستقبل القطاع الأهلي لن ينهض بالنوايا وحدها، بل يبدأ من الجذر: القيادة المؤهلة. فلا قيادة بلا علم، ولا إدارة بلا معرفة، ولا أثر بلا أساس. وعندما نستكمل البناء، وتستقيم القاعدة، ويقف في مقدمة الجمعيات من يملك الوعي والخبرة، عندها فقط نستطيع أن نرفع سقف توقعاتنا، وأن نرى الجمعيات تؤدي دورها الحقيقي كما يجب، وتكون ذراعاً ثالثة للدولة بحق، ذراعاً قوية، واعية، مؤتمنة على الوطن. وحين تتأسس الجمعيات على قانونٍ محكم وقيادة مؤهلة، يمكن للبناء أن يرتفع، وللأثر أن يتسع، وللوطن أن يقطف ثمار المشاركة التي طال انتظارها.









