
السياسي والمثقف في زمن المقاهي الفيسبوكية : سقوط الهيبة في حفرة التفاهة والمال
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
في زمنٍ صار فيه المقهى أشبه بقاعة تشريح للأوطان، يجلس الناس فيها وهم يضحكون على جثث القيم في بثّ مباشر، جلس السياسي والمثقف في ركنٍ بائس، ركنٍ يشبه “غرفة الانتظار قبل الإعدام”.
لم يعد الضوء يعرف طريقًا إليهما؛ الضوء الآن فوق رأس شاب يصوّر “لايف” عن نهاية الدولة بينما يقف خلفه كيس قمامة مفتوح.
دخل السياسي وهو يجرّ ظلًا كئيبًا يُذكّر بعدد الفضائح لا بعدد الانتصارات. المثقف دخل بعده بدقيقة .. دقيقة كافية لتأكيد أنه لم يعد “ضمير الأمة” بل مجرد تابع فقد صوته ووقع على بياض.
كان السياسي بحاجة لبلاغة المثقف، والمثقف بحاجة لحماية السياسي… قبل أن يكتشف الاثنان أن الزمن لم يعد بحاجة لأي منهما. لقد أصبحت اللعبة من دون لاعبين.
ظهر جيل رقمي متوحّش : يُطلق نظريات سياسية تحت الدش، ويُقيم ثورات وهو يشرب عصيرًا صناعيًا، ويهدم الدولة في بوست، ثم يعيد بناءها في بوست آخر، وكلاهما يُنسى في غضون ساعات.
جيل يتعلم السياسة من فيديو مقطوع بثلاثة أصوات خلفية، ويُحلّل الجغرافيا من تعليق، ويصدر فتاوى الأخلاق وهو لا يعرف كيف يرتّب غرفته.
صار السياسي يخاف من مؤثر يملك متابعين أكثر من المتبقّي من شعبه، وصار المثقف يختبئ من طالب جامعي لم يقرأ نصف صفحة من “كانط”، لكنه يستطيع تلخيص الفلسفة والفيزياء النووية في “ريل” مدته 12 ثانية. فتحول السياسي إلى يوتيوبر فاشل يجرّب الابتسامة عشر مرات قبل التصوير. وتحول المثقف إلى بودكاستر يبيع الحكمة على شكل أقراص صوتية منتهية الصلاحية. أما الجمهور فقد أصبح قاضيًا وجلادًا ومؤرخًا وخبيرًا عسكريًا…، وهو يكتب تعليقه من السرير.
جلس السياسي والمثقف أمام هذا الخراب وكأنهما شاهدان على جنازة نفسيهما. وعندما حاول السياسي الكلام، صرخ شاب : “يا عم… السياسة دلوقتي على الجروبات، وليست في المكاتب”!. وحاول المثقف استعادة هيبته فقال له آخر : “يا دكتور… كتبكم أطول من أعمارنا… أعطنا المختصر في لايف عشر دقايق”!.
ثم جاءت اللحظة الأكثر قسوة… عندما وقف الإثنان أمام “المال السياسي”، اكتشفا أنهما لا شيء !. لا جمهور، لا تأثير، لا قيمة. المال السياسي ابتلع كل شيء : المثقف الذي كان يفاخِر بضميره، والسياسي الذي كان يتقن لعبة السلطة. صار المال هو “الحاكم الفعلي”، والجمهور صار يصفّق له حتى لو كان يقود البلاد إلى الجحيم. لقد عفا الزمن على المثقف والسياسي معًا .. لم يعد لهما مكان حتى في مقبرة الرموز.
وبينما انهارت السلطة السياسية والسلطة الثقافية أمام جبروت المال وسرعة الشاشة، صعدت سلطة ثالثة لا تُقهر : سلطة التفاهة الرقمية. سلطة بلا مشروع، بلا رؤية، بلا أخلاق… تحتاج فقط : شبكة إنترنت، وجهًا جريئًا، وثقة عمياء في الجهل.
صار المثقف القديم مهرّجًا يركض خلف الترند، وصار السياسي القديم ممثلًا رديئًا يبحث عن فلتر يخفي تجاعيد الفشل، وصار المجتمع كله جمهورًا ينتظر البث القادم… حتى لو كان البث فيه قطّة تأكل الخيار.
العالم الذي حذّر منه ابن خلدون عاد، لكن بشكل أكثر سخرية : عاد بفلتر وردي يخفي سواد الخراب، وبابتسامة إلكترونية تسوّق الانهيار على أنه محتوىً ترفيهي. وهكذا تُدار الأوطان اليوم : مثل خناقة تافهة في جروب العائلة.
من يصرخ أولًا يفوز، ومن يعرف أقل يعلو صوته أكثر، ومن يملك المال السياسي يحكم الجميع بلا منازع.











