بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

اللقب مُقَدَّم .. والبحث مُؤَجَّل!!

خالـصـة الصـلـتـية

 

ليست كل الحوارات تُنسى، فبعضها يوقظ فيك أسئلة لم تفكر بها من قبل، ويكشف هشاشة المظاهر التي كانت تبدو صلبة من بعيد.

كنت أتناقش ذات يوم مع إحدى من يقدم اسمها بلقب “دكتورة”.
الجميع يناديها بهذا اللقب، ويتعامل معها وكأنها صاحبة علم واسع ورأي عميق.
تحدثت معها في موضوع علمي بسيط، فإذا بي أكتشف فراغاً يصعب وصفه؛ كانت الكلمات تتعثر، والمعرفة غائبة، واليقين مفقود.
تفكرت في الأمر لاحقاً، فعلمت أنها تحمل ما يسمى “دكتوراه مهنية”، ولا أحد يعرف من أين نالتها ولا مضمونها.

تلك اللحظة لم تكن مجرد موقف عابر، بل صفعة وعي جعلتني أتأمل كيف تحولت الألقاب إلى أقنعة تسبق أصحابها، وكيف أصبح اللقب مقدماً على العلم، والبحث مؤجلاً إلى إشعار آخر.

لقد امتلأت المنصات ووسائل التواصل بأشخاص يقدمون أنفسهم كـ”دكاترة”، بعضهم يحمل شهادات مهنية لا تمت إلى البحث العلمي بصلة، وبعضهم يتزين بشهادات فخرية من جهات مجهولة، ومع ذلك يتصدرون المشهد ويتحدثون بثقة وكأنهم رواد فكر ومعرفة.

الدكتوراه الأكاديمية الحقيقية رحلة شاقة، لا تختصر في دورة، ولا تمنح في بريد إلكتروني.
إنها ثمرة بحث ومناقشة وتعب وسهر ومسار علمي طويل يخضع للتمحيص والتقييم؛ أما الدكتوراه المهنية، فهي شهادة تأهيل تطبيقي لتطوير مهارات محددة في مجال العمل، وليست مؤهلاً أكاديمياً يمنح صاحبه حق استخدام اللقب في المحافل العلمية أو الإعلامية.

أما الشهادات الفخرية، فكانت في أصلها تقديراً لمن قدم إنجازاً وطنياً أو علمياً واضحاً، تمنحها جهات أكاديمية معترف بها ضمن معايير صارمة؛ لكنها اليوم صارت باباً للفوضى، تمنحها مؤسسات غامضة عبر الإنترنت مقابل المال أو الشهرة أو المجاملة، حتى أصبحت أداةً لتزيين الأسماء أكثر من تكريم العقول.

إن ما يجري لا يضر بصورة التعليم فحسب، بل يهز الثقة في القيمة العلمية للمؤهلات الحقيقية.
فحين يمنح اللقب بلا استحقاق، تتساوى الجِدِّيَّةُ مع الادعاء، ويضيع صوت الباحث الحقيقي في ضجيج الوجاهة المصطنعة.

الواجب الوطني والمهني اليوم يحتم على الجهات المعنية، وفي مقدمتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، ووزارة الإعلام، وهيئة الاعتماد الاكاديمي وجودة التعليم ، أن تضع ضوابط صارمة تنظم استخدام الألقاب الأكاديمية والمهنية والفخرية.
يجب أن يُمْنَع استخدام لقبَ “دكتور” إلا لمن يحمل درجةً أكاديميةً معترفاً بها رسمياً، وأن تُحظَر الإعلانات أو الأنشطة التي تروج لشهادات وهمية أو صادرة من مؤسسات غير مرخصة أو معترف بها.

كما أن على وسائل الإعلام أن تتحمل مسؤوليتها في التحقق من الألقاب التي تستخدم في المقابلات أو الحملات الإعلانية، لأن تكرار اللقب الخاطئ يَخْلُقُ وهماً جَمْعِيّاً، ويُكَرِّسُ ثقافة المظاهر على حساب المضمون.

إن الشهادة الفخرية لا تُطلَب ولا تُشتَرى، بل تُمْنَح تقديراً حقيقياً لمن صنع فرقاً ملموساً في مجاله.
أما من يسعى خلف لقب ليُغطي فراغاً معرفياً، أو يُحَقِّقَ حضوراً اجتماعياً، فإنه في النهاية يضر نفسه قبل أن يضر المجتمع.

آن الأوان لأن يعاد الاعتبار للعلم والباحثين الحقيقيين، وأن يغلق باب العبث بالألقاب، فالمجتمعات التي تقدم الشكل على المضمون، تُضْعِفُ مناعتَها الفكرية، وتُطفِئُ نورَ الحقيقة في عقول أبنائها.

العلم مكانته لا تُشترى، واللقب لا يَصنَعُ صاحِبَه. من يَسْتَحِقَّه، لا يحتاج أن يُكَرِّرَه ألفَ مرة ليُقنَع الناس، فالعلم كالنور، يُرى حتى من بعيد.

نأمل من الجهات التشريعية والتنظيمية في السلطنة أن تُصدِرَ تشريعاً واضحاً يُنَظِّمُ مَنْحَ واستخدام الألقاب الأكاديمية والمهنية والفخرية، ويَحصُرُها في نطاقها الصحيح، حِفْظاً لهيبة التعليم، وصوناً لثقة المجتمع، وحمايةً من التضليل الذي بات يهدد مكانة العلم الحقيقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى