أصداء وآراء

مواقف تاريخية لزعماء عرب

 

خميس بن عبيد القطيطي

كاتـب – سـلطـنة عُـمان

khamisalqutaiti@gmail.com

تختزل الذاكرة العربية مواقف تاريخية عظيمة ومشرفة لبعض الزعماء العرب في مواجهة القوى الامبريالية، وسنسلط الضوء في سياقنا التالي حول مواقف تمثل العزة والكرامة والشموخ تميز بها بعض الزعماء العرب في العصر الحديث، وبالتحديد خلال فترة التحرير بالوطن العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. واختيارنا لهذه الفترة الزمنية لأسباب متعددة منها الإسقاط الدولي المباشر على منطقتنا العربية ووجود الكيان الصهيوني المدعوم من القوى الدولية، إضافة إلى أن العالم كان يشهد تشكل نظام دولي جديد وبروز قوى عالمية جديدة تتحكم بالمشهد الدولي، وبالتالي على دول العالم الثالث أو العالم النامي أن تكون في فلك تلك القوى الدولية، فنشبت حروب بسبب صراع النفوذ الدولي، وحدثت تدخلات دولية سافرة للسيطرة على مناطق النفوذ في العالم، وكان على الدول الصغيرة أن تنصاع لما تقرره القوى الدولية، ولكن نظرا لوجود بعض الزعماء التاريخيين الذين كان لهم دور في صناعة الأحداث والتاريخ، حيث توافرت لهم العناصر اللازمة للتعامل بندية وشجاعة في مواجهة الاستكبار العالمي .
لقد قدم هؤلاء الزعماء دروسا للعالم بأسره بأن القيادات التي ترتبط ارتباطا وثيقا بشعوبها ستحقق معادلة القوة والنفوذ والتأثير، تلك القيادات كانت تتكئ على قاعدة ثورية قوية وتتصل روحيا بتجارب ثورية أخرى حول العالم، لذلك توافرت لها كل المعطيات والمزايا الشخصية والثورية لإشهار مواقف تاريخية في مجابهة القوى الامبريالية والغطرسة الدولية، فأدى التلاحم الجماهيري مع تلك القيادات إلى صناعة الفارق في النفوذ والتأثير، كما أن أولئك الزعماء ألهموا الشعوب حول العالم بالتخلص من نير الاستعمار، والثورة في وجه الظلم والاستكبار، فكرس ذلك حالة من التكتل الدولي والارتباط الثوري الجماهيري، والتاريخ يذكرنا بعدد من أولئك القادة والزعماء، فرحم الله تلك الأيام ورحم أولئك الزعماء!! وما أحوج الأمة اليوم إلى استلهام تلك المواقف والدروس، في وقت انزوت فيه العديد من الدول تحت مظلة القوى الاستعمارية من جديد، فاستهانت بهم وسيطرت على ثرواتهم وانتقصت سيادتهم .
لقد برز عدد من القادة التاريخيين في تلك الفترة، وكانت لهم مواقف عظيمة مشرفة وعلى رأس أولئك القادة الزعيم جمال عبدالناصر الذي حقق معادلة النفوذ والتأثير في أرجاء العالم وقاراته من أميركا اللاتينية إلى آسيا وإفريقيا وخصوصا في الوطن العربي، فاستطاع تأسيس منظمة عدم الانحياز مع عدد من قادة العالم عام 1955م، وهي منظمة تمثل تكتلا دوليا وتضم عددا من الدول المستقلة التي تتبنى الحياد الإيجابي، وظهرت في فترة الحرب الباردة؛ لذلك شكلت ثقلا ومساحة من النفوذ على الصعيد الدولي، كما أن تجربة عبدالناصر في تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر الذي أعقب التأميم في عام 1956م وحالة الصمود والتصدي الأسطوري الذي أظهره الشعب المصري وقيادته في مجابهة قوى العدوان جعلت من عبدالناصر ملهما للكثير من الثورات حول العالم، فاتسع نطاق التأثير والنفوذ لهذا الزعيم؛ لذلك لا غرابة أن يتم استقبال عبدالناصر زعيما تاريخيا عندما حضر اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك عام 1960م، فكان أول من ألقى كلمة باللغة العربية على منبر الأمم المتحدة، وفي أثناء تحركه لإلقاء كلمته وقفت معظم وفود العالم في قاعة المؤتمر تصفق لهذا الزعيم العربي، والمشاهد التي توثق ذلك الموقف تشعر العرب جميعا بالفخر والاعتزاز، ولا ينسى التاريخ أيضا انسحاب عبدالناصر من قاعة المؤتمر عندما أراد مندوب “إسرائيل” إلقاء كلمته فأدى ذلك إلى انسحاب ما يقرب من نصف عدد الوفود المشاركة في المؤتمر، لذلك قال عنه الرئيس الأميركي نيكسون أن هناك ثلاث قوى متحكمة في العالم الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ومصر عبدالناصر، وهذه من حقائق التاريخ التي أثبتت البراهين والوقائع حقيقتها. كما يذكر لنا التاريخ حادثة سفينة كليوباترا التي رست في ميناء نيويورك محملة بالقطن المصري لكي تعود محملة بالقمح الذي يعتمد عليه الشعب المصري في معيشتهم، وذلك حسب اتفاق الصادرات والواردات الموقع بين البلدين، فرفض عمال الشحن تفريغ السفينة كليوباترا بتأثير من اللوبي اليهودي من أجل الضغط على مصر ومواقفها القوية، فأجرى السفير المصري اتصالا بوزير الخارجية الذي بدوره أبلغ الرئيس عبدالناصر الذي تحرك على الفور إلى إذاعة صوت العرب وألقى خطابا عاجلا موجها إلى عمال الشحن والتفريغ في جميع الموانئ العربية موضحا ما حدث للسفينة كليوباترا، في محاولة للضغط على مصر والأمة العربية، وطالب عمال الشحن بإيقاف شحن أو تفريغ أي سفينة أميركية، وخلال ثلاث ساعات توقفت جميع السفن الأميركية في الموانئ العربية من البصرة إلى طنجة، فأمر الرئيس الأميركي نيكسون الجيش بتفريغ وشحن السفينة كليوباترا، ما يدل على قدرات الزعامة والتأثير التي يمتلكها الزعيم عبدالناصر في مجابهة تلك القوى الدولية.
كذلك يذكر التاريخ أيضا حادثة أخرى تمثل الإرادة والعزة، وهي أن السفير الأميركي بالجزائر التقى الرئيس هواري بومدين على خلفية مساعدة الجزائر لمصر في حرب 67م وإمداد مصر بجميع الطائرات التي كانت تمتلكها الجزائر، فأبدى السفير الأميركي استياء الولايات المتحدة من دور الجزائر في الحرب، فكان جواب الرئيس بومدين: أولا: الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تأمر الدول فتطيع قد انتهى. ثانيا: انتهى وقت المقابلة! لذلك سجل التاريخ هذه المواقف العظيمة بالكثير من الفخر والاعتزاز، ما يثبت أن هؤلاء الزعماء امتلكوا المؤهلات الشخصية والأوراق اللازمة التي منحتهم الثقة والإرادة لتسجيل هذه المواقف التاريخية، وأدركوا أن كلمة السر في التلاحم مع الجماهير والشعوب والارتباط الوثيق مع العرب جميعا، إضافة إلى الانفتاح مع بقية دول العالم الصاعدة، وهو ما مكن أولئك الزعماء من التعامل بندية وشجاعة مع القوى العالمية .
هناك مواقف أخرى قد لا يتسع المجال لذكرها لقادة عرب آخرين أمثال الرئيس الجزائري أحمد بن بيلا والزعيم الليبي معمر القذافي والرئيس حافظ الأسد والرئيس صدام حسين، وهي مواقف تاريخية عظيمة بغض النظر عن الأخطاء التي صاحبت تلك المرحلة من تاريخهم، ولكن الأمة العربية كانت تعتمد على مثل هذه القيادات في مختلف الظروف رغم الصعوبات والضغوطات في تلك المرحلة، فرحم الله اولئك القادة الذين لم يستكينوا للاستكبار الدولي، وقدموا الدروس أن الانصياع لقوى الاستعمار لا يولد إلا مزيدا من الخسائر والذل والهوان .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى