حوارقضايا أصداء

وزير المالية اليمني الأسبق والخبير الاقتصادي الدكتور صالح شعبان لصحيفة أصــداء :  تبنّي اقتصاد المعرفة يعني إحداث ثورة في العملية الإنتاجية .. الصين تمثل تحدياً وجودياً لأمريكا ويمكن أن تقود العالم في السنوات العشر القادمة..

أصــداء | 

 

“عن اقتصاد المعرفة ومتطلبات بناءه والتحدي الحقيقي الذي تواجه الدول العربية في ظل وباء كورونا بالإضافة الى التنافس الأمريكي الصيني واستشراف المستقبل في إمكانية حدوث تصادم بين الدولتين وانعكاس ذلك على الاقتصاد العالم … صحيفة أصــداء تلتقي الخبير الاقتصادي الدكتور صالح شعبان وزير المالية اليمني الأسبق لتسليط الأضواء على تلك المواضيع”..

 

حاوره : أحمد قاسم – اليمن

 

س/ بداية هل يمكن للدول العربية ان تنتقل الى اقتصاد المعرفة لاختصار الطريق وتحقيق نمو اقتصادي أم أن الاقتصاد التقليدي يبقى الخيار المتاح لفترات زمنية ليست قصيرة؟.

ج/ اقتصاد المعرفة أصبح واقعاً حياً ملموساً، وإن كان يبدو للبعض أنه مازال تحت التكوين والتشكل، وأصبح يتفوق على الاقتصادات الأخرى كلّها، وبشكل غير مسبوق، سواء من الناحية الكمية المحسوسة، أو من الناحية النوعية الملموسة، لأن الإنسان هو قطب الرحى فيه، ولذلك فإن المهارات الفردية والإبداع والابتكار ليست عوامل للإنتاج فحسب، وإنما هي أيضاً مصادر للثروة ودوافع للنمو الاقتصادي.

س/ يعني وفقا لطرحك أنه من السهولة تبني هذا التوجه دون عوائق؟.

ج/ لا ليس بهذه السهولة فالاتجاه نحو تبني اقتصاد المعرفة يعني احداث ثورة في العملية الانتاجية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالمتعارف عليه في علم الاقتصاد وبعض العلوم الاخرى أن الأرض والعمالة ورأس المال هي العوامل الثلاثة الأساسية للإنتاج، اضيف اليها التكنولوجيا في مطلع ثمانينات القرن الفائت, اما اقتصاد المعرفة فان الأصول المهمة فيه هي المعرفة الفنية والذكاء والإبداع, والابتكار والمعلومات. وصار للذكاء المتجسد في برامج الكمبيوتر والتكنولوجيا عبر نطاق واسع من المنتجات أهمية تفوق أهمية رأس المال أو المواد أو العمالة, أي ان الثورة الرابعة في تطور الانتاج هي المعرفة فبعد ظهور الثورة الزراعية، والثورة الصناعية اللتان استمر تأثيرهما واضحا حتى سبعينيات القرن الماضي وفي الربع الأخير منه ظهر أعظم تغيير في حياة البشرية هو التحول الثالث المتمثل بثورة العلوم فائقة التطور في المجالات الالكترونية والنووية والفيزيائية والبيولوجية والفضائية, وغيرها من المجالات الذي بدأت معه اقتصاديات دول العالم تتجه نحو توجهات جديدة أُطلق عليها تسميات مختلفة مثل الاقتصاد الجديد, والاقتصاد ما بعد الصناعي، واقتصاد المعلومات، والاقتصاد الرقمي، والافتراضي، والاقتصاد الشبكي، واقتصاد اللاملموسات، وأخير هذه الثورة الجبارة لمن يدركها ثورة المعرفة، ومنها جاء مصطلح اقتصاد المعرفة.

س/ هذا يعني أن هناك نمطاً جديداً مختلفاً عن الأنماط الذي ذكرت بدخول هذه الثورة – حد تعبيرك – عالم الإنتاج ، فما هو الجديد هنا يا ترى؟.

ج/ لا شك أن اقتصاد المعرفة يعد نمطاً متطوراً عن الأنماط السابقة، لأنه الاقتصاد الذي تؤدي فيه المعرفة دوراً أساسياً في خلق الثروة، وتحتل فيه مساحة أكبر وأكثر عمقاً مما كانت في أشكال الاقتصادات السابقة، فلم يعد من حدود لدور المعرفة في الاقتصاد، إذْ أصبحت تُشكل مكوناً أساسياً في العملية الإنتاجية، وتحقق الجزء الأعظم من القيمة المضافة فيه.

س/ هل هناك متطلبات لبناء هذا الاقتصاد حتى يرى النور بالفعل؟.

ج/ حتما هناك عدد من المتطلبات والإجراءات والإصلاحات التي لا بد منها، مثل:

1- إعادة هيكلة الإنفاق العام وترشيده.

2- زيادة الإنفاق المخصص لتكنولوجيا المعلومات وتعزيز دورها في الحياة العامة، ابتدآ من  المدرسة وصولا إلى التعليم الجامعي, متجاوزا ذلك الى التعلم.

3- العمل على إعداد وتطوير رأس المال البشري بنوعية عالية.

4- إدراك كافة اصحاب المصالح من دولة ومستثمرين وشركات ومجتمع لأهمية اقتصاد المعرفة.

5- تطوير القوانين المستخدمة لتتناسب مع اقتصاد المعرفة.

6- دعم انتشار الثقافة الاجتماعيّة التي تُشجّع على الابتكار، والإبداع، وتدعم البحث والتطوير، عن طريق توفير بيئة تفاعليّة تشجّع الإنسان على إنتاج المعرفة.

7- الاستفادة من تجارب الدول الصاعدة في هذا المجال والتعاون معها على المستوى المعرفي والتقني.

س/ ما رأيكم لو نعرج قليلاً حول الاقتصاد الدولي وانعكاساته على الواقع العربي ، كيف ترون ذلك؟.

ج/ بالتعريج على الاقتصاد الدولي يتضح أن العالم والواقع العربي جزء منه يعيش ظرفاً استثنائياً في ظل انتشار فيروس كورونا وما استتبعه من تأثيرات اقتصادية واسعة النطاق شملت عدة أصعدة في ضوء تأثر سلاسل الإمدادات العالمية، وحركة التجارة الدولية، وأنشطة الاستهلاك والاستثمار والتصنيع، وكذلك ارتفاع مستويات عدم اليقين، وانخفاض ثقة المستهلكين والمستثمرين، كما فرض الفيروس قيوداً على أنشطة العديد من القطاعات الاقتصادية وخاصة بعد فرض عدد من الدول حظر على حركة النقل بما أثر على قطاعات السياحة والطيران والتجارة والصناعات التحويلية وغيرها من القطاعات الاقتصادية الأخرى.

س/ لكن كانت كثير من التوقعات تشير الى ان اثر كرونا على الاقتصاد العالمي سيكون محدودا، وما نلاحظه عكس ذلك؟

ج/ كانت التوقعات تُشير إلى ذلك في حالة ما إذا تم احتواء الفيروس، وقد بالغت بعض التوقعات حيث اشارت الى أن الأثر على الاقتصاد العالمي سوف يكون محدوداً في نطاق  نقطة أو نقطتين مئويتين بالكثير.

غير أن فرضيات أخرى لاحقة رجحت تراجعاً أكبر للنشاط الاقتصادي العالمي، متوقعةً تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام إلى نصف مستوياته المتوقعة قبل انتشار الفيروس، وقد  فرض استمرار انتشار الفيروس  مجموعة من الإجراءات والتدابير الاحترازية، كالعزل والحجر الصحي والتباعد الجسدي، وغلق الحدود البحرية والبرية وتعليق الرحلات الجوية، انعكست تلك الاجراءات سلبا على الاقتصاد العالمي الذي دخل في حالة ركود حاد وانكماش مفاجئ، وبالتالي يتوقع ظهور أزمة اقتصادية عالمية  قد تفوق تلك المسجلة خلال الأزمة المالية العالمية الكبرى التي حصلت في العام 1929م.

أما بالنسبة للدول العربية؛ فسوف يكون للمستجدات المرتبطة بالفيروس تداعيات ملموسة على الاقتصادات العربية اجمالا، ومن أبرزها الطلب الخارجي الذي يساهم بنحو 48 في المائة من إجمالي الطلب الكلي في الدول العربية، في هذا السياق تأثرت وستتأثر صادرات الدول العربية النفطية وغير النفطية بتراجع الطلب العالمي، بسبب تباطؤ الطلب لدى عدد من شركائها التجاريين، حيث تُعتبر الدول المتأثرة بالفيروس حالياً من أهم الشركاء التجاريين للدول العربية كونها تستوعب حوالي 65 في المائة من الصادرات العربية، خاصة في ظل التوترات التجارية الحاصلة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.

وحتما سيكون لهذه التطورات أثراً على معدلات البطالة في الدول العربية التي من المتوقع أن تشهد ارتفاعاً خلال الفترة القادمة خاصة وهناك تضرر عدد من القطاعات الاقتصادية الموفرة لفرص العمل، على رأسها قطاع السياحة الذي يسهم بنسبة تتراوح ما بين 12 و19 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عدد من الدول العربية التي تعد وجهات سياحية عالمية. كما سوف يُعمق من أثر هذه التطورات على سوق العمل في العديد من الدول العربية تأثر نشاط قطاع المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة الذي يسهم بنحو 45 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي ونحو ثلث فرص العمل المولدة في القطاع الرسمي.

بالمجمل ومن خلال المؤشرات الاقتصادية الصادرة عن بعض مراكز الدراسات والبحوث وكذلك عن صندوق النقد العربي فمن المتوقع تراجع معدل نمو الاقتصادات العربية إلى نصف معدلاتها المتوقعة قبل انتشار الفيروس.

س/ يعني هناك تحدي يواجه الدول العربية؟.

ج/ بالتأكيد فالدول العربية اليوم أمام تحد حقيقي، وهو كيفية الخروج من هذه الأزمة المركبة، ومواجهة آثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، غير أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق تنمية التعاون وتكاثف جهود المجتمع الدولي، والعمل الجاد على إعادة تحديد وترتيب الأولويات، وفتح الباب  واسعا في المستقبل للبحث العلمي  وعصر المعرفة.

س/ هل تتابعون ما يحدث بين امريكا والصين وهل يمكن تصنيفه بالحرب الباردة قد يتبعها انفجار ساخن في أي وقت؟.

ج/ اتوقع انه لا يوجد متابع سياسي او اقتصادي واحد مهتم بفهم ما يجري في هذا العالم لا يتابع بدقة شديدة ما يحدث بين امريكا والصين من صراع على النفوذ، هذا الصراع هو العامل الاساسي الذي سيشكل الاحداث في الفترة المتبقية من الالفية الثالثة.

أمريكا والصين، كلتاهما قوتان كبيرتان اقتصاديًّا، وسياسيًّا، ودوليًّا، ولكنهما مختلفتان في العديد من الأمور الخاصة بالنظام الدولي، والمحلي، والعسكري، والاقتصادي، وكذلك في القدرة والسعي إلى الهيمنة، وهو ما سبَّب عددًا من الأزمات بين البلدين على مدار السنوات الماضية، إلا أنها الآن في أسوأ حالاتها منذ وفاة الرئيس الصيني ماو تسي تونج في العام 1976م، وقد كانت في عهده العلاقة مع أمريكا بالغة السوء بسبب التوجه الشيوعي، ومشكلة تايوان.

أما الآن فالسبب الظاهري للتوتر هو فيروس كورونا وما سببه من ركود اقتصادي نجم عنه تضرر هائل في امريكا والعالم، وتصر امريكا على أن الصين مسؤولة عن هذا الفيروس حتى انها تسميه الفيروس الصيني بدلاً عن كوفيد-19، وهذا يزعج الصين جداً، أمريكا في إدارة ترامب وحتى في إدارة بايدن عكست هذا التوتر على شكل عقوبات تجارية واقتصادية على الصين من خلال رفع التعريفات الجمركية على أي بضائع صينية تصل إلى أمريكا.

هذا الأمر أدى الى تحرش وتوتر سياسي بين البوارج والسفن الحربية الأمريكية ونظيراتها الصينية في مضيق تايوان خلال الفترة الماضية، هذا في الظاهر.

ولكن السبب الرئيسي والحقيقي هو خوف أمريكا من صعود الصين الى الساحة الدولية كقوة عظمى وقد صعدت فعلا وليس مجرد تصرفات، فأمريكا تدرك أن امتلاك الصين لأدوات القوة العسكرية والاقتصادية يمثل تهديداً على زعامتها للعالم وبالتالي تشعر بالخطر من الصين.

خاصة وأن الرئيس الصيني شي جين بينج أعلن صراحة عن نيته لوضع الصين في قيادة العالم، حيث قال في يناير 2017م : “الصين مستعدة لملء الفراغ في القيادة العالمية الناجم عن تحول الولايات المتحدة الأمريكية للداخل أكثر من كونها قوة عالمية”.

س/ في رايكم هل لهذا القول ما يبرره وهل يمكن تحقيقه؟

ج/ هذ الأمر يتطلب البحث جيداً في الوضع العام لكلا الدولتين، وأظن وقت البرنامج  لا يسمح بذلك، لكن لابأس ان نتطرق الى ذلك بإيجاز شديد، فالعديد من التقارير الاقتصادية والسياسية والعسكرية  تعطينا مؤشرات يمكن الخروج منها ببعض الملامح فمثلا في الشأن الاقتصادي  كان الناتج المحلي الامريكي في العام 2019  حوالي 21 ترليون دولار، في حين كان الناتج الصيني 14 ترليون دولار، اما في الشأن العسكري أمريكا تسيطر على كل المضائق والمعابر المائية في العالم وتحديدا اهم محيطين الاطلنطي والهادي، في حين ان الصين لا تسيطر على شيء من المجاري المائية في العالم وما زال عندها مشاكل في بحري الصين الشمالي والجنوبي ومشكلة تايوان، القواعد العسكرية وحاملات الطائرات الامريكية في كل بقاع العالم، بينما الصين تملك قاعدة واحدة فقط في جيبوتي اسست عام 2017.

أما الفضاء فأمريكا ما زالت مسيطرة على 45% من الأقمار الصناعية التجارية والعسكرية إلا أن الصين تملك أسلحة متطورة قادرة على تدمير الأقمار الصناعية الأمريكية، وهو جزء من التنافس المتزايد مع الجيش الأمريكي في الفضاء. والصين مصممة على استبدال الولايات المتحدة كقوة مهيمنة في الفضاء على مستوى القوة الناعمة، أمريكا صاحبة عملة الاحتياط الدولي الدولار، بالإضافة الى اللغة فالإنجليزية هي اللغة الدولية الأكثر انتشاراً.

لكن من جانب آخر علينا أن نتذكر أين كانت الصين في ثمانينيات القرن الماضي، ففي العام 1980م، لم يكن يسمع عنها إلا القليل من البشر، كان ناتجها المحلي الإجمالي 191 مليار دولار ، يعني أقل من بولندا، لأن ناتج بولندا حينها كان 195 مليار دولار، ولا تقارن بفرنسا الذي كان ناتجها المحلي الاجمالي حوالي 700 مليار دولار، اما امريكا فقد كان ناتجها المحلي الاجمالي في ذلك الوقت 2.8 ترليون دولار، أي ان اقتصاد الصين كان يعادل اقل من 7% من الاقتصاد الامريكي. وكانت الاحتياطات الصينية في العام 1980 تساوي 16% من الاحتياطي النقدي الأمريكي، وكانت صادرات الصين لا تتجاوز 6 % من الصادرات الأمريكية.

بينما في العام 2020 أصبح الاقتصاد الصيني يعادل 70% من الاقتصاد الأمريكي، وأصبحت الاحتياطات الصينية حوالي 30 ضعف ما تملكه أمريكا في خزائنها، أما الصادرات الصينية فقد تجاوزت الصادرات الأمريكية بأكثر من 110%.

“الخلاصة أن الصين تمثّل تحدياً وجودياً لأمريكا، وإنها لو سارت بنفس الوتيرة التي تسير بها؛ فإنها خلال عشر سنوات من الآن ستقود العالم حتماً وهذا ما يزعج الأمريكان”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى