ثقافة وأدب

الأسرة والتفاعل مع معطيات العصر الرقمي.. تنمية وإثراء للتواصل المعرفي

أصـــداء /العُمانية

في ظل التداخل المتسارع للتكنولوجيا في تفاصيل الحياة اليومية، تبرز الأسرة العُمانية بوصفها الركيزة الأساسية لبناء المجتمع، وقد تتقاطع رؤاها مع جملة من التحديات، منها ما يتمثل في الحفاظ على واقع الهوية الثقافية والاجتماعية وسط تحولات في القيم وأنماط التواصل الجديد التي فرضها العالم الرقمي، ومما لا شك فيه فقد أسهم انتشار التعليم بمستوياته المختلفة في تعزيز وعي الأسرة تجاه قضايا التربية والمواطنة والتواصل الاجتماعي، حيث باتت أكثر قدرة على فهم التحديات في الوقت الراهن والتعامل معها بمرونة ووعي.

ومن منظور علمي تربوي، يعد هذا التحول دليلًا على تطور الثقافة المجتمعية نحو تبني قيم التعليم كركيزة أساسية في بناء الإنسان والمجتمع، وفي هذا السياق تقول الدكتورة رضية بنت سليمان الحبسية، أستاذ الإدارة التربوية المساعد بجامعة نزوى: أحدث انتشار التعليم في سلطنة عُمان تحولًا جذريًّا في وعي الأسر تجاه قضايا التربية والمواطنة والتواصل الاجتماعي.

وذكرت أن المؤسسات التعليمية، سواء كانت مدارس أو جامعات، لعبت دورًا حيويًّا في هذا التحول، فمع زيادة نسبة التعليم، أصبح الآباء والأمهات أكثر إدراكًا بأهمية التربية الحديثة، التي تركز على تطوير مهارات الأطفال الاجتماعية والعاطفية، كما قدمت المؤسسات التعليمية مناهج شاملة تتناول أساليب التربية الفعالة، مما أتاح للأسر فرصة التعلم من تجارب علمية تجريبية.

وأضافت: علاوة على ذلك، تم دمج مفاهيم المواطنة في المناهج الدراسية، مما زاد من وعي الأسر بأهمية الانتماء إلى الوطن والمشاركة الفعالة في المجتمع، حيث ساعدت هذه المناهج على فهم أفراد الأسر لحقوقهم وواجباتهم كمواطنين، مما يعزز من تلاحم المجتمع.

أما فيما يتعلق بالتواصل الاجتماعي، فقد بيّنت الحبسية أن التعليم أتاح للأسر الاطلاع على تقنيات التواصل الحديثة، مما أسهم في تحسين العلاقات الأسرية والاجتماعية، فالتعليم يعزز من التواصل الفعال بين أفراد الأسرة، مما ينمي التفاهم والحوار العقلاني بينهم.

وأشارت إلى أن الوعي الجديد الناتج عن انتشار التعليم أسهم في بناء أسر أكثر انفتاحًا وقدرة على التوازن بين الأصالة والتجديد، وقد ساعدت المؤسسات التعليمية الأسر على استيعاب الأفكار والمفاهيم الجديدة، مما أتاح لهم فرصة التكيف مع المتغيرات الاجتماعية والثقافية.

وترى أنه ومن خلال المناهج الدراسية، تدرك الأسر أن التغييرات لا تعني التخلي عن القيم والتقاليد، بل تعني تعزيز الهوية الثقافية من خلال دمجها مع المعرفة الحديثة، وبرامج التعليم العالي، على وجه الخصوص، تسهم في تأهيل الأفراد ليكونوا قادة مفكرين، مما يساعد في تعزيز النقاشات المثمرة حول القضايا الاجتماعية والثقافية.

وأكدت بقولها إن هذا الانفتاح الفكري قد أسهم في تحسين الحوار بين الأجيال، حيث أصبح بإمكان الآباء والأبناء مناقشة القضايا الاجتماعية والثقافية بشكل أكثر انفتاحًا، فالحوار الفعّال يعزز من الثقة والتفاهم، ويقلل من الفجوات بين الأجيال، فالأسر التي تمتلك هذا الوعي الجديد تكون أكثر قدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة تتعلق بأسلوب حياتها اليومية، وتوازنها بين الأصالة والتجديد ينعكس في أسلوب حياة أكثر مرونة، حيث يتمكن الأفراد من دمج القيم التقليدية مع أساليب الحياة العصرية بشكل متكامل.

وفي سياق الحديث عن المدى الذي استطاعت من خلاله التكنولوجيا أن تظل جسرًا حيويًّا يسهم في تعزيز التواصل بين أفراد الأسرة العُمانية والحفاظ على الترابط الاجتماعي في ظل التباعد سواء لدواعٍ دراسية أو وظيفية، فقد أشار الدكتور سالم بن حميد الشعيلي – مدير دائرة مشاريع الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة بوزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات، إلى أن البنية الرقمية المتقدمة في سلطنة عُمان شكّلت قاعدة صلبة قوية لتوظيف الوسائط الحديثة داخل البيوت.

وأوضح أنه بحسب تقرير (Digital 2024)، بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في سلطنة عُمان نحو 4.58 مليون مستخدم، بنسبة انتشار تصل إلى 97.8 بالمائة من إجمالي السكان، بينما تشير بيانات البنك الدولي إلى أن 95.25 بالمائة من الأفراد يستخدمون الإنترنت، معظمهم عبر الهواتف الذكية وفقًا لتقرير صحفي محلي.

ويرى الشعيلي أن هذا الانتشار الواسع مكن الأسر من الاستفادة من أدوات الاتصال المرئي، لا سيما خلال جائحة كورونا، حيث أثبتت التجربة التعليمية في مراحل التعليم العالي فاعلية هذه الوسائط في استمرارية العملية التعليمية، وزيادة فرص التفاعل بين المعلمين والطلبة رغم التباعد الجسدي.

وبيّن أنه قد انعكس هذا التحول الرقمي على الحياة الأسرية، إذ أصبحت التطبيقات جزءًا من الروتين اليومي للتواصل بين أفراد الأسرة، سواء في متابعة الدراسة، أو مشاركة لحظات عائلية كقراءة القصص أو مشاهدة فيلم مشترك.

وذكر أن الأبناء باتوا يلعبون دور الوسيط الرقمي بين الأجيال، حيث يساعدون آباءهم وأمهاتهم على استخدام التكنولوجيا، بينما ينقل الآباء قيمهم وتاريخهم عبر الوسائط المتعددة، مما أوجد نوعًا من التفاعل المعرفي المتبادل داخل الأسرة.

وأضاف الشعيلي أنه مع ذلك، لا تخلو الصورة من تحديات؛ فقد حذّرت دراسات محلية من تأثير الاستخدام المفرط وغير المنضبط للإنترنت على العلاقات الأسرية، مشيرةً إلى تراجع في التواصل بين الأزواج والأشقاء، إضافة إلى الفجوة الرقمية بين الآباء والأبناء التي قد تؤدي إلى توتر إذا غاب التفاهم المشترك حول نمط الاستخدام.

وبيّن في سياق حديثه: يمكن القول إن التكنولوجيا أصبحت جسرًا حيويًّا للتواصل الأسري في المجتمع العُماني، لكنها تتطلب وعيًا تربويًّا وثقافيًّا لضمان أن تبقى نافذة للتقارب لا حاجزًا للفصل بين الأجيال.

أما الباحث الاجتماعي الدكتور ناصر بن محمد العوفي – الأستاذ في علم الاجتماع بجامعة نزوى، فيرى أن العولمة قد ظهرت كعامل رئيسي في تطور التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، مما أحدث تأثيرًا عميقًا في مختلف جوانب المجتمع، وعلى رأسها الأسرة، فقد أصبح العالم الرقمي جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية داخل البيوت، مما أدى إلى إيجاد جيل جديد يعرف عند علماء الاجتماع بمسمى “الأطفال الرقميون”.

وأشار إلى أن الأسرة العُمانية أصبحت في كفتي ميزان بين الاستفادة من التطور الرقمي في التنشئة الاجتماعية الحديثة وبين التأثيرات السلبية على القيم والهوية، وفي جانب شغف الأبناء بالتكنولوجيا، يدعو العوفي إلى ضرورة استثمار هذا الشغف في تنشئتهم وتوجيههم نحو بناء شخصية متوازنة، من خلال دمج الوسائل الرقمية في التربية وتعزيز الهوية العُمانية لديهم.

وينوه الدكتور إلى أن التطبيقات الرقمية التي تجمع بين الترفيه والتفاعل يمكن أن تُوظف بشكل إيجابي في ترسيخ الهوية العُمانية لدى الأبناء، من خلال اختيار مسابقات ثقافية مرتبطة بالتراث الوطني تُمارس في جو عائلي ممتع، مما يعزز الروابط الأسرية ويقوي الشعور بالانتماء.

وذكر من ناحية أخرى أن الثقافة الرقمية، رغم ما توفره من فرص للتعلم والتواصل، قد تحمل آثارًا سلبية إذا ما طغى استخدامها داخل الأسرة على حساب التواصل المباشر بين أفرادها، كما أن قضاء ساعات طويلة أمام الأجهزة الذكية يُعزز من النزعة الفردية، ويُضعف الروابط الأسرية، وقد ينتج عن هذا الواقع جيل رقمي يفتقر إلى المهارات الاجتماعية، بل وقد تظهر لديه أنماط من “العقوق الرقمي”.

وأضاف أن الثقافة الرقمية لدى الأبناء في بعض الأحيان هي ثقافة استهلاكية يغلب عليها طابع التبذير من خلال الشراء الإلكتروني، وظهور نمط غذائي قائم على مطاعم الوجبات السريعة الذي أدى إلى عزوف الأبناء عن التجمع العائلي على الطعام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى