آثار عمليات غَسل الأموال وآلية مواجهتها..
محـمـد الغـافـري
آثار عمليات غَسل الأموال وآلية مواجهتها..
إن ظاهرة غَسل الأموال تُعد من الظواهر المقلقة للعالم، وبالتالي تتنوع وتتعدد التأثيرات الناتجة عن عملیات غسل الأموال سواء کان التأثیر مباشر أو غیر مباشر ویختلف من دولة إلى أخرى حسب الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسیاسي وکذلك یأتی الاهتمام الدولي بهذه الجریمة بعد تنامي عملیات غسل الأموال بسبب تنامي تجارة المخدرات ومن ثم نقوم بمناقشة هذه الأضرار التي تتسبب فیها عملیات غَسل الأموال.
أولاً : الآثار الاقتصادیة :
من المحتم أن عمليات غسل الأموال يمكنها التأثیر على السیاسة المالیة للدولة، فمن المعروف أن القائمین على تخطیط وإدارة النظامین المالي والمصرفي للدولة یعتمدون على مقدار السیولة المتوفرة لدى المصارف فی رسم السیاسة المالیة والائتمانیة، فعندما تکون السیولة غیر معبرة بصدق عن حقیقتها فیکون هنالك خلل في السیاسة المالیة للدولة مما يضر بالتالي بالاقتصاد القومي.
كما أن هذه الجريمة من شأنها التأثیر على النظام المصرفی لأي دولة، وذلك عندما تنتهي عصابات غسل الأموال إلى ترکیز الأموال فی أیدي عصابات تسعى إلى السیطرة على المصارف لیتم التعاون معهم مستقبلاً في عملیات غسل الأموال، ومن ثم فإن المصارف التي تمت السیطرة علیها لن تخدم التنمیة الاقتصادیة فی الدولة. ومن الآثار الاقتصادیة لهذه الجريمة أنها حتماً ستضر بالبنوك والمؤسسات المالیة لأن غاسلي الأموال یقومون بسحب مفاجئ للأموال الأمر الذي یؤدی إلى إحداث إخلال فی النقد المتوفر بالمصرف وتعمل على إفساد الجهاز المصرفي نتیجة الرشوة لقیادات المصارف لضمان تنفیذ تعلیمات العصابات الفاسدة التي تقوم بعملیات الغسل. وتؤدي أیضاً إلى زیادة العقوبات التي تفرض على المصرف نتیجة استخدامه واستغلاله في عملیات الغسل وضیاع الأمن وزعزعة الثقة في الکوادر المصرفیة التي تؤدي إلى انهیار المصرف تماماً وکذلك المساهمة في التضخم عن طریق الثراء الفاحش أو الإنفاق ببزخ دون ترشید، فتکثر النقود في المجتمع دون أن یقابل ذلك أي إنتاج. فیزید الطلب على السلع مع قلة العرض والإنتاج في المجتمع فترتفع الأسعار دون مبرر ثم تتدهور القیمة الشرائیة للنقود ویحدث التضخم، وکذلك تدهور قیمة العملة الوطنیة نتیجة اعتماد عملیات الغسل على النقد الأجنبي ولسهولة تحریکه من دولة إلى أخرى؛ فیحدث عجز فی میزان المدفوعات، ویحدث أیضاً أزمة فی سیولة النقد الأجنبي مما یهدد احتیاجات الدولة لدى البنوك المرکزية من العملات الأجنبیة المدخرة.
كما أن عملیات غسل الأموال تفسح المجال واسعاً أمام تهریب العملات الصعبة بشتى الوسائل والسبل والأسالیب. وهذا یلحق أضراراً جسیمة في شرایین الاقتصاد کافة مسبباً عجزاً واضحاً فی میزان المدفوعات وانخفاضاً واسعاً في مفردات الدخل القومي.
کذلك عملیات غسل الأموال المرتبطة بتجارة المخدرات تخلق على المدى المتوسط والبعید طبقة واسعة من العاملین في مجال الاقتصاد کافة. ممن لا یهمهم مستقبل البلاد الاقتصادي وناتجه القومي، ولا یبالون بانعکاسات تردي الأوضاع الاقتصادیة على عموم المواطنین في البلاغ مما یدفع البلاد بالضرورة إلى أزمات اقتصادیة متشابکة ومزمنة،
وأیضاً تؤدي هذه الأموال إلى زیادة إنتاج المخدرات وازدیاد استهلاکها، إضافة إلى المساهمة في العبور بالإضافة إلى انخفاض أجور ودخول الأفراد المتورطین في تعاطي المخدرات.
ثانیاً : الآثار الاجتماعیة :
إن نجاح غسل الأموال، واستکمال مراحلها المختلفة، مع عدم تمکن السلطات المعنیة من اعتراضها أو إیقافها والقبض على مرتکبیها ومصادرة المضبوطات، یعني باختصار تمکن المجرمین والعصابات من قطف ثمار جرائمهم واستفادتهم بصورة تبدو مشروعة من هذه الثمار، مما یعنی استمراراً للجریمة بشتى أنواعها وأشکالها، وازدیاداً مضطرداً في الانحراف من القانون والقیم والمثل العلیا، بل تتعدى انعکاساتها إلى البنیة الاجتماعیة وما تتضمنه من أُطر أخلاقیة تکرست نتیجة لثوابت العادات والقیم، فعملیات غسل الأموال تؤدي إلى جملة من الآثار السلبیة التي یتأثر بها الفرد والمجتمع والنظام العام محلیاً وعالمیاً حیث تؤدي إلى انتشار الفساد والجرائم بمختلف أنواعها، وذلک بالنظر إلى المزید من هذه الجرائم وانعکاساتها السلبیة، وبالتالي شیوع الجریمة، والفوضى في المجتمع؛ دون التمکن من الوصول إلى الأصابع الخفیة التی تقف ورائها،
وتؤدي أیضاً إلى استنزاف موارد الدولة في التصدي للجریمة وکشف المجرمین وإعادة تأهیل وعلاج ضحایاهم أو التائبین منهم… إلخ، وکذلك الاستنزاف المستمر للجهد البشري والمفترض أن یذهب إلى التنمیة والتقدم والتطور بدلاً من أن یقع ضحیة الأعمال والمجتمع،
وتؤدي أیضاً إلى اضطراب القیم وخلخلة الموازین الاجتماعیة وهدم الموروث الثقافي والعقدي للمجتمع، وذلك نتیجة صعود أرباب الجریمة وأصحاب الدخل غیر المشروع إلى قمة الهرم الاجتماعی والسیاسي وخاصة فی المجتمعات الرأسمالیة وذلك بالنظر إلى الثروة الکبیرة التي بحوزتهم والتی کوَّنوها عن طریق الاتجار بالمخدرات على سبيل المثال بحیث یصبح بعد ذلك بمقدورهم تغییر القوانین والأعراف والنظم الساریة إلى الاتجاه الذي یخدم مصالحهم،
تؤدي كذلك إلى إهدار قیمة العمل والإنتاج فلم تعد هناك حاجة للعمل، ولا یعوَّل على الإنتاج لأنه لا طائل منه، وتضعف قیمة الانتماء للوطن والرغبة في العمل على تقدم الوطن وازدهاره. وتؤدي إلى ترکیز الثروة في أیدی الغاسلين فیزداد الفقیر فقراً والغني غنىً فیحدث خلل في البناء الاجتماعي فیتکون الحقد الطبقي.
ثالثاً : الآثار السیاسیة :
على الصعید السیاسی فإن عملیات غسل الأموال تلعب دوراً في غایة الخطورة لتأجیج الصراعات السیاسیة والعسکریة، وخلق بؤر الصراع والنزاع المسلح بوصفها سوقاً مفتوحة ومصدراً من مصادر جني الأموال القذرة وتوظیفها في إدامة الصراع من جدید، وتؤدي أیضاً إلى انتشار الفساد المالي والإداري، ویصبح أصحاب القرار حلقة من حلقات إخفاء المشروعیة على تلك الأموال وتزداد نسب الجرائم وعملیات الاغتیال وتسمیم السلطات التشریعیة والقضائیة مما یؤدي إلى ضعف هذه الأجهزة ویجعل من الصعب علیها أن تؤدي دورها في مکافحة الجریمة کما أن هذه الأموال قد تستخدم من أجل دعم وتمویل أنشطة المنظمات الإرهابیة التي تستهدف تغییر نظام الحکم بالقوة ومقاومة السلطات.
ومن ناحیة أخرى فإن هذه الأموال قد تستخدم في الدعایة الانتخابیة والتأثیر على عملیة الاقتراع، مما قد یجعل من أصحاب هذه الأموال نواباً في المجالس النیابیة الذین یمثلون الشعب ویراقبون الحکومة ویضعون التشریعات.
کما أن تأثیر هذه الأموال یبدو بصفة خاصة على وسائل الإعلام المختلفة، فبمقدور أصحابها شراء الصحف والقنوات وتجنید الأقلام، بالإضافة لما لهذه الوسائل من تأثیر بالغ الأهمیة على وعي الشعوب ومستقبل المجتمعات.
آلیة مواجهة عملیات غَسل الأموال :
نظراً لما تشکله عملیات غسل الأموال من خطر على الاقتصاد الوطني والعالمي فقد تضافرت الجهود المحلیة والدولیة لمکافحتها ویمکن القول أن تلك الجهود قد أخذت إطارها العملي في نهایة عقد الثمانینیات فأنشأت المنظمات وعقدت المؤتمرات والاتفاقیات لمنع هذه العملیات فقد بدأ تجریم غسل الأموال مع تجریم الإتجار بالمخدرات والمؤثرات العقلیة والجرائم المرتبطة بها، وصولاً إلى الجرائم الخطیرة بوجه عام کجرائم مستقلة وحرمان مقترفیها من أرباحهم غیر المشروعة. ومن أمثلة الإجراءات البارزة في مجال مکافحة ظاهرة غسل الأموال على المستوى الدولي نجد الاتفاقیة الموحدة للمخدرات لعام 1961م واتفاقیة المؤثرات العقلیة لعام 1971م ونجد فضلاً عن تجریمها الأنشطة المتعلقة بالمخدرات فإنها تضمنت نصوصاً تتعلق بغسل الأموال الناشئة عن الإتجار غیر المشروع بالمخدرات، وکذلك اتفاقیة الأمم المتحدة لمکافحة الإتجار غیر المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلیة “فینا 1988م والتي تحتوي على ( 34 مادة) والقرارات الصادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي ولجنة المخدرات بالأمم المتحدة وکذلك توصیات الهیئة الدولیة للرقابة على المخدرات، إضافة إلى المؤتمر الوزاري العالمي المعني بالجریمة المنظمة عبر الوطنیة نابولي 1994م والمؤتمر الدولي المعني بمکافحة ومنع غسل الأموال واستخدام عائدات الجریمة “کورمایر 1994م” واتفاقیة الأمم المتحدة لمکافحة الجریمة المنظمة عبر الوطنیة “بالیرمو 2000” وکذلك توصیة المجلس الأوروبي رقم 80 لسنة 1980م في سبیل مکافحة إخفاء وتحویل الأموال الغیر مشروعة الناتجة عن المخدرات إلى أموال مشروعة من خلال البنوك وأیضاً التسریح النموذجي بشأن غسل الأموال في مجال المخدرات والصادر عن الأمم المتحدة “الهیئة الدولیة لمراقبة المخدرات” فی عامي 1993م- 1995م… الخ.
وفی إطار العالم العربی نجد الاتفاقیة العربیة لمکافحة الإتجار غیر المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلیة لسنة 1994م، فبجانب تحریم الإتجار في المخدرات نجد أن الاتفاقیة العربیة اهتمت بتجریم المتحصلات الناتجة عن الإتجار في المخدرات والمؤثرات العقلیة وأي أموال ناتجة عن البیع أو الشراء أو أي أموال تتعلق بعملیات الإتجار، كما أن جميع الدول العربية جرّمت وحرمت غسل الأموال الناتج عن عن المتحصلات الجرمية.
ومن جانبٍ آخر، فإن السیاسات الاقتصادیة هي المسؤولة عن الاهتمام بتنمیة الاقتصاد الکلي وإیجاد التشریعات الملائمة الاقتصادیة وغیر الاقتصادیة لمکافحة انتشار عملیات غسل الأموال والتصدي لها؛ فالاقتصاد هو المضرور الأول من انتشار جرائم غسل الأموال على المستوى الدولي والوطني لأن هذه العملیات تنمو في ظل الاقتصاد الخفي العدو الأساسي للاقتصاد المشروع، ولهذا تطلبت مثل هذه الجرائم درایة ومعرفة لمرتکبیها ولهذا أیضاً تطلبت عملاً وتعاوناً یتجاوز الحدود الجغرافیة، مما جعلها جریمة منظمة تقارفها منظمات جرمیة متخصصة، وجریمة عابرة للحدود ذات سمات عالیة، ومن هنا أیضاً لیس بالسهل مکافحتها دون جهد دولي وتعاون شامل یحقق فعالیة أنشطة مکافحتها.
ولهذا تعد البنوك المستهدف الرئیسي في عملیات غسل الأموال، ویرجع ذلك إلى دور البنوك المتعاظم في تقدیم مختلف الخدمات المصرفیة وتحدیداً عملیات الصرف والتحویل النقدي بواسطة الشیکات والحوالات المالیة خاصة بالوسائل الإلکترونیة وبطاقات الائتمان والوفاء وعملیات المقاصة وإدارة المحافظ الاستثماریة وتداول العملات والأسهم وغیرها، وهذه الخدمات یتسع مداها ونطاقها في عصر المعلومات وتتحول إلى أنماط أکثر سهولة من حیث الأداء وأقل رقابة من حیث آلیة التنفیذ خاصة في میدان البنوك الإلکترونیة أو بنوک الویب على شبکة الإنترنت، ومثل هذه العملیات بشکلیها التقلیدی والإلکترونی خیر وسیلة لتستغل من أجل إخفاء المصدر غیر المشروع للمال؛ لذلك نجد الاتفاقات الدولیة التي تم التوصل إلیها في إطار مکافحة غسل الأموال تهتم في الأساس بالمؤسسات المالیة والمصرفیة التي تمثل في الحقیقة البیئة الخصبة لنشاط هذه العملیات ومن أهم هذه الاتفاقیات اتفاقیة فیينا 1988م ومجموعة العمل المالي التی أقرت 40 توصیة.