بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

غزة .. نبوءة الأرض وصوت النصر

عيسى بن سالم بن علي البلوشي

 

لقد كَبَحْتُ جِماحَ رغبتي الداخلية عن الكتابة عن غزة طيلة الفترة السابقة لأسباب عدّة، وليس هذا هو موضع الحديث عنها؛ فغزة ليست مدينةً عادية؛ إنها رمزٌ خالد في ذاكرة التاريخ والكتب السماوية، مدينةٌ تحدّثت عنها التوراة كأرضٍ للفلسطينيين الأوائل، ووردت في الإنجيل طريقًا للبشارة والتحوّل، وشملها القرآن ببركة الأرض التي بارك الله فيها للعالمين.

على رمالها مرّ الأنبياء، ومنها انطلقت رسالات الإيمان والحق، فهي ليست رقعة جغرافية فحسب، بل أيقونةُ ثباتٍ وصبرٍ وإرادةٍ لا تُقهر.

واليوم، بعد أعوامٍ من النار والحصار، تنهض غزة من بين الركام كما تنهض العنقاء من الرماد. يأتي اتفاق السلام الأخير ليكون شاهدًا على أن صوت الحياة أقوى من أزيز الطائرات، وأن الحقّ، مهما حُوصِر، لا يموت.

إنها بداية طريقٍ جديدٍ لا يُطفِئُ جذوةَ المقاومة ولا يَنْسى التضحيات، بل يؤكد أن من صمدوا تحت القصف، وواجهوا الجوع والدمار، هم أصحاب الكلمة الأخيرة : كلمة البقاء، وكلمة العزّة.

في غزة، الدمع ليس ضعفًا بل وضوءُ كرامة، والصبر ليس استسلامًا بل شموخُ إيمان.
كلّ طفلٍ خرج من تحت الركام مبتسمًا هو انتصار، وكلّ أمٍّ شيّعت شهيدها ورفعت رأسها إلى السماء هي درسٌ في البطولة. لقد علّمت غزة العالم أن النصر ليس في عدد الجيوش، بل في ثبات القلب على الحقّ، وأن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع بالصمود والإيمان.

غزة اليوم ليست مجرد قصة ألمٍ، بل عنوان فخرٍ وعزيمةٍ لأمّةٍ بأكملها. إنها الدليل الحيّ على أن الأوطان لا تموت ما دام فيها من يؤمن بها، وأن الشعوب التي تتشبث بحقّها تكتب التاريخ بدمائها، لا بأقلام الآخرين. في وجه العتمة، كانت غزة النور، وفي زمن الانكسار، كانت هي الكبرياء الذي أعاد للأمة وعيها بأن الحرية لا تُهدى، بل تُنتزع بثمنٍ غالٍ.

وفي ختام الحكاية، تبقى غزة نبض الكرامة وعنوان الانتصار. هي الأرض التي علّمتنا أن المجد لا يولد من الراحة، وأن النصر الحقيقي هو أن تبقى واقفًا حين يريد الجميع أن يراك صمنكسِرًا. ومن بين أنقاضها يرتفع الأذان من جديد، كأنها تُعلن للعالم : هنا وُلد الصبر، وهنا انتصر الإيمان، وهنا ستبقى العزّة ما بقيت السماء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى