نقوش تتكلم.. الجمال الإسلامي في العمارة الأوزبكية
من سلسلة: أوزبكستان بعين العربي – بقلم د. محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد
حين تطأ قدماك سمرقند وبخارى وخيوة، تشعر أن الحجر يتحدث. كل قبة، وكل قوس، وكل نقشة على جدار أو محراب هي قصيدة صامتة، تنطق بحروفٍ لم تخترعها الأقلام، بل صنعتها الأيدي الماهرة التي عاشت على إيقاع السماء والأرض معًا.
إن العمارة الأوزبكية الإسلامية ليست مجرد مبانٍ تتزين باللون والزخرفة، بل هي لغة كاملة تتحدث عن الروح، وتعلّم العاقل كيف يرى الله في هندسة الخطوط وألوان الفسيفساء.
في ريغستان بسمرقند، تمتزج القباب الزرقاء مع النقوش الهندسية كالأنغام المتداخلة، فتشعر أن كل حجر هنا ليس صامتًا، بل يهمس باسم خالقه.
لقد تولّى المؤرخون الحديثون والزوار وصف هذه المباني بالأرقام والتواريخ، لكنها ليست مجرد إحصاءات. العمارة في أوزبكستان درس في الصبر والاهتمام بالتفاصيل: كل نقش هندسي يخفي خلفه حكمة، وكل تكرار في النقوش يرمز إلى التكرار الإيماني الذي يغذي الروح. وحتى لو غابت الكلمات، فالناظر يستطيع قراءة التاريخ والتربية والفلسفة في كل زاوية.
خذ مثلاً مسجد بيبي خانم في سمرقند، الذي شيد في القرن الرابع عشر الميلادي بأمر من الأمير تيمورلنك: قوّة القباب تعكس عظمة الروح المهيمنة على الدولة والزخارف النباتية ترمز إلى الجنة والخصوبة والحياة والآيات القرآنية المكتوبة بخط الثلث والتاجي على البلاط هي تذكير مستمر بأن الفن لا ينفصل عن العبادة.
وإذا عدنا إلى خيوة وبخارى، نجد أن الزخرفة هناك أكثر تقليدية، وأكثر تواضعًا في بعض الأحيان، لكنها أكثر صدقًا في التعبير عن الحياة اليومية للناس: الأسواق، الحمامات، المدارس، والزوايا التي تعكس بساطة الإنسان الأوزبكي وحبه للجمال العملي.
في هذه المدن الصغيرة، يصبح الحجر واللون والضوء لغة مشتركة بين الماضي والحاضر، بين الزائر والسكان المحليين، بين العبادة والجمال الفني. ومن زاوية نقدية، يمكن القول إن العمارة الأوزبكية نجحت في تحقيق توازن بين الرمزية والفن: فهي لم تتجاوز حدّ الزخرفة لتصبح زخرفة بلا معنى، ولم تبخل على العين والروح بالانسجام والهدوء. كل عنصر فيها يخدم غاية مزدوجة: الجمال والإرشاد الروحي. وهذا ما يجعلها نموذجًا يحتذى للمعمار الإسلامي في أي مكان من العالم.
والأجمل أن الزخارف الهندسية والألوان لا تتكرر مجرد نسخ، بل تتغير بتغير الموقع والإضاءة، فتبدو كل زاوية جديدة كما لو أنها قصيدة مختلفة في كتاب واحد. إنها لغة لا تحتاج إلى ترجمة، فهمها متاح لكل قلب يبحث عن الجمال، لا لكل قلم يحصي التفاصيل فقط.
في النهاية، حين يغادر الزائر هذه المدن، لن يحمل معه مجرد صور فوتوغرافية أو سجلات تاريخية، بل حسًّا بالانسجام الروحي والجمالي، ودرسًا نادرًا في كيفية أن يصبح الفن رسالة، وأن تتحوّل المباني إلى معابد للروح قبل أن تكون معابد للحجر.












