
سينما الاقتصاد واقتصاد السينما
الدكتور/ خالد بن عبدالرحيم الزدجالي
«حين تخاف الدولة من صورتها !»..
في زمنٍ أصبحت فيه الصورة اللغة الرسمية للعالم، ما تزال بعض الحكومات العربية تتعامل مع السينما كترفٍ ثقافي أو كخطرٍ أخلاقي.
السينما ليست ترفيهًا، بل اقتصاد متكامل يشغّل مئات المهن، من النقل والسياحة إلى التكنولوجيا والتعليم. لكن الخوف من الكاميرا ما زال يحكم الذهنية الرسمية، كأن الصورة مرآة محرجة تكشف ما يُراد إخفاؤه.
السينما التي لم تُفهم بعد..
في العالم الحديث، تُعامل السينما كصناعة وطنية توازي النفط أو التكنولوجيا. هي وسيلة لتسويق الهوية وفتح نوافذ الاستثمار، وأداة ناعمة للدبلوماسية الثقافية. أما في الأنظمة المحافظة إداريًا، فما تزال السينما تُترك للهواة، بلا خطة ولا دعم ولا رؤية اقتصادية. وهكذا تُهدر فرصة بناء «اقتصاد الصورة» لصالح بيروقراطية تخشى الإبداع أكثر مما تخشى العجز المالي.
اقتصاد بلا صورة..
كيف يمكن الترويج للسياحة أو الاستثمار إذا أُغلقت أبواب التصوير والنشر والإعلام المستقل؟ المؤتمرات لا تصنع الثقة، والندوات لا تبني سمعة، والمعارض الخارجية مهما أُنفق عليها لا تخلق قناعة حقيقية.
المفارقة أن بعض المسؤولين في هذه الدول يسافرون فرادى إلى المعارض والمنتديات الدولية حاملين حقائب العروض والدعاية، يصرفون ملايين لإقناع المستثمرين بفرصٍ خيالية، بينما يمكن بإنتاج عدة أفلام وطنية صادقة – لا تتجاوز كلفتُها عُشْرَ ميزانيات تلك المعارض – أن تحقق أثرًا أعمق ونتائج أبقى.
الفيلم الحقيقي أكثر إقناعًا من ألف مؤتمر، لأنه يقدّم الصورة لا الخطاب، والواقع لا الوعود.
الخوف من السينما .. خوف من الوعي..
السينما تفكر، والبيروقراطية تخاف التفكير.
الفن الحقيقي يطرح الأسئلة، بينما المؤسسة الرسمية تحب الإجابات الجاهزة.
ولذلك، تُكافأ “السينما الآمنة” التي تمجّد ولا تناقش، ويُحاصر المخرج الذي يرى أبعد من الشعارات.
كل فيلم صادق يصبح تهديدًا لأنه يُظهر ما يُحرج السلطة : الواقع كما هو، لا كما يُراد له أن يبدو.
في نظر الإدارات التقليدية، الصورة التي لا يمكن التحكم بها؛ أخطر من المشكلة نفسها.
التلفزيون والسينما .. وجهان للخوف ذاته..
الخوف من فتح قنوات جديدة أو محتوى حرّ هو الوجه الآخر للخوف من السينما.
في بعض الدول العربية، لا تزال الساحة الإعلامية محصورة في قناةٍ واحدة تحمل العبء كله،
قناة تتحدث باسم الجميع ولا تسمح لغيرها أن يتنفس،
تخلط بين الدور الإعلامي والدور الدعائي،
وتقدّم برامج جماهيرية سطحية لا تصنع وعيًا، بل تُكرّس الغفلة الجماعية.
الاعتماد على قناة واحدة، مهووسة بالتمجيد والدعاية، هو الجهل ذاته بدور الإعلام في بناء وعي المجتمع وصورته أمام العالم.
الإعلام الرسمي في تلك البلدان يريد أن يرى ذاته فقط، فيكرر الصورة ذاتها منذ عقود : المواطن المثالي، المدينة الهادئة، الواقع الوردي.
لكن العالم اليوم لا يثق بالبيانات، بل بالصور التي تخرج من الناس لا من المكاتب.
أمة بلا شاشة حرة .. أمة بلا ذاكرة..
حين يُستدعى الأجنبي ليروي التاريخ،
وحين تقرر بعض هذه الدول أن تروي تاريخها في فيلمٍ أو مسلسل، تكتشف أن الثقة بالمبدع المحلي معدومة. يُستدعى الوافد أو الأجنبي ليكتب ويُخرج العمل، لأن المؤسسة لا تثق في أبناء البلاد، وتخشى أن يُقدّموا رواية مختلفة عمّا تعودته.
فنصبح أمام مفارقةٍ قاسية :
يُطلب من الغريب أن يروي الذاكرة الوطنية، ثم تُلام الأجيال لأنها لا تعرف من تكون.
وحين يُقصى المبدع المحلي من سرد تاريخه،
كيف يُنتظر من جيله أن يثق بدولةٍ لا تثق فيه؟
هكذا يُستورد الوعي كما يُستورد الإعلان، وتُفرَّغ الذاكرة من صوتها الوطني لصالح مقاولٍ ثقافيٍ مؤقت.
الجهل والرجعية شريكان في إعاقة الصورة..
الجهل يجعل بعض المسؤولين يظنون أن السينما لهوٌ ونزقٌ شبابي،
والرؤية الرجعية تجعلهم يخافون من الفن كما يخافون من الحرية.
لا يدركون أن السينما يمكن أن تكون حصنًا للهوية، لا خطرًا عليها.
وفي ظل غياب الفهم المؤسسي، تُقتل المبادرات الفردية في المهد،
بينما تُقام المهرجانات الصورية التي تُشبه حفلات التجميل أكثر مما تشبه صناعة حقيقية.
نُحتفل بالمهرجان لا بالفيلم، وبالمنصة لا بالمعنى.
خيارات الاستثمار .. حين تختار الدولة الأضعف..
الخوف من الاختلاف لا يتجلى في الفن وحده، بل في الاقتصاد أيضًا.
في عددٍ من هذه الدول، تميل خيارات الاستثمار إلى المستثمر الضعيف في بلده ليصبح قويًا في بلادها،
يأتي باحثًا عن سلطةٍ بديلة لا عن سوقٍ حقيقية.
يُمنح الامتياز والتسهيل والدعم، لا لأنه صاحب فكرة مبتكرة، بل لأنه لا يثير قلقًا ولا يناقش.
فتتشكل حوله شبكة مصالح من الجالية التي تحميه وتدير أعماله،
لا برؤية اقتصادية متزنة، بل بعلاقات تسند نفسها بنفسها.
وهكذا تتحول بيئة الاستثمار إلى ملاذٍ آمنٍ للضعفاء، لا ساحة تنافسٍ للأقوياء.
وفي النهاية، تصبح النتيجة واحدة :
اقتصاد بلا روح، وصناعة بلا هوية، ومشاريع بلا رواية وطنية تحميها.
خاتمة : الكاميرا ليست خطرًا..
السينما ليست تهديدًا، بل وسيلة لبناء الثقة بين الدولة والعالم، وبين المواطن وذاته.
كل لقطة تُظهر الواقع بصدق هي فعل وطني واقتصادي في آنٍ واحد.
الدولة التي تخاف من صورتها لا تخاف من الكاميرا، بل من الحقيقة.
ومن يخاف من الحقيقة، لا يمكنه أن يبني اقتصادًا .. ولا مستقبلًا.










