بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

دفن الميت ليس عملاً عشوائيًا .. مشاهد لا تليق بوداع موتانا !!

الكاتب أ. عصام بن محمود الرئيسي
مدرب بروتوكول ومراسم – مؤلف أعمال متخصصة في المراسم والتشريفات

 

 

لقد علّمنا ديننا الإسلامي الحنيف أن كرامة الإنسان محفوظة حيًا وميتًا، وأن احترام الميت لا يكون بالحزن عليه فقط، بل أيضًا بهدوء التعامل أثناء دفنه، وعدم رفع الأصوات أو التزاحم حول قبره حيث أن في هذه اللحظات وهي لحظات الوداع الأخيرة، وحين يُوارى الجثمان الثرى وتختلط مشاعر الفقد بالحزن، يُفترض أن تكون المقبرة ساحة صمتٍ وهيبة، وأن يُظللها الوقار والخشوع، لا الصخب والعشوائية. ومع ذلك، ما نراه أحيانًا في بعض الجنائز من سلوكيات غير منضبطة أثناء عملية الدفن يدعو إلى التوقف والتأمل، بل وإلى مراجعة أنفسنا في كيفية التعاطي مع هذا المشهد الإنساني العظيم.

حيث يلاحظ أحيانًا في بعض الجنائز مشهد يبعث على الأسى: تدافع وتدخل من غير ذوي الخبرة وأصوات مرتفعة تتعالى حول القبر هنا وهناك، أوامر عشوائية ومتداخلة تُقال دون تنسيق، حتى إنك لا تكاد تميّز من المتحدث بينها لكثرة الأصوات وتداخلها: “أعطني الطابوق”، “هات الماء”، “انزل فلان”، “انتبه فلان”، “اطلع فلان” وكأننا أمام ورشة عمل لا أمام لحظة وداع لإنسانٍ غادر الحياة!

مشهد يفتقر إلى النظام والاحترام المطلوب، ولا يعكس صورة المجتمع المتحضر الذي نرجوه ويُضعف من روح السكينة التي ينبغي أن تميز هذا المقام الشريف. بل ينبغي أن يُترك أمر الدفن لأهل الاختصاص الذين يعرفون كيفية وضع الجثمان في اللحد، وسدّه بالطابوق، وتسوية القبر بما يليق بحرمة الميت.أما الحضور، فدورهم الدعاء والمساندة الصامتة لا المشاركة المرتبكة.

فالدفن يحتاج إلى تنسيقٍ ومنظم بسيط: مسؤول محدد يدير الموقف ويوجه بصوت هادئ، وأفرادٌ يقومون بالعمل بهدوء، وبقية الحضور يجلسون بوقار وهدوء وبعيدا قليلا عن القبر ويلتزمون بالدعاء والمساندة بصمت. حتى يُتم من بيده الأمر عمله بتركيز وطمأنينة. فلكل مقام أدب، وأدب المقابر هو الصمت والتفكر والدعاء.

أنّ الدفن ليس عملًا عشوائيًا، بل هو شعيرة من شعائر الإسلام تقوم على الرفق والتوقير، وعلى مراعاة حرمة الميت وحرمة المكان. وقد حثّ النبي ﷺ على الإسراع في تجهيز الميت ودفنه، ولكن دون تسرّعٍ أو ارتباك، فقال عليه الصلاة والسلام: “أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ”  ( رواه البخاري ومسلم).

إن من السلوك الاجتماعي الرفيع أن نحترم خصوصية أهل الفقيد، فلا نُكثر من الكلام أو التوجيه، ولا نتدخل إلا عند الحاجة أو الطلب. فالموقف محاط بمشاعر الحزن والتعب، وأي تصرف غير محسوب قد يُضاعف من ألمهم دون قصد. كما يُستحب أن نُعلّم أبناءنا وأجيالنا كيف يحضرون الجنائز بوقار، وكيف يشاركون في الدفن إن لزم الأمر، دون تجاوز أو فوضى. ولعلّنا هنا نحتاج إلى ثقافة مجتمعية جديدة في التعامل مع الموت ومراسم الدفن، تقوم على التنظيم والتدريب المسبق، كما تفعل بعض الجهات التي تُخصّص فرقًا تطوعية مدرّبة للقيام بمهام الدفن وفق معايير منضبطة وهادئة. وجود مثل هذه الفرق يخفف من الفوضى، ويُتيح للحضور التفرغ للدعاء والترحّم دون ارتباك أو صخب.

وفي المقابل، لا بد أن نذكّر أنفسنا بأن السكينة عبادة، وأن الهدوء في المقبرة ليس مجرد ذوق اجتماعي بل سلوك تعبدي يعكس عمق الإيمان بقدسية الموت. فمن يرفع صوته أو يتعامل بعشوائية في لحظة الدفن، كمن يخلّ بآداب الصلاة أو الوقوف في المسجد. إنها مواقف تتطلب التهذيب والانضباط لا التحمس والتسرع.

وفي الختام، يبقى الميت أحقّ بالاحترام بعد موته كما كان في حياته. واحترامه يبدأ من لحظة حمله على الأكتاف وحتى تسوية التراب عليه. وإن من أجمل ما يمكن أن يُقال في تلك اللحظة: رحمك الله، وغفر لك، وجعل مثواك الجنة.

فلنحافظ جميعًا على قدسية هذه اللحظات، ولنجعل المقابر ساحات صمتٍ وسكينة، لا ميادين صخبٍ وارتباك. فالموت مدرسة تهذّب الأحياء قبل أن تكون نهاية للأموات، فالهدوء في المقبرة نوعٌ من الذكر، والسكوت احترامٌ لمن انتقل الى رحمة الله، والتنظيم أثناء الدفن دليل وعيٍ وحضارة.
وعلى الخير نلتقي وبالمحبة نرتقي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى