
من شرف الرعاية إلى عبث الدعاية
خـالـصـة الـصـلـتـيـة
في السنوات الأخيرة أصبحت عبارة “برعاية فلان…” أو “تحت رعاية شخصية رسمية…” تتكرر حتى فقدت معناها، وتحولت إلى شعارٍ يعلّق على كل فعالية مهما كانت قيمتها.
صارت الرعاية الرسمية في بعض الأحيان أقرب إلى دعاية مجانية لصاحب الحدث أكثر من كونها دعمًا لمضمونٍ يخدم الصالح العام. فهناك فعاليات لا تتجاوز كونها مشروعاتٍ تجارية أو ترويجية، لكنها تُغلف بشعارات المسؤولية المجتمعية لتبدو أكثر وقارًا، وتستدرّ حضور المسؤولين، وكأنهم قطعة ديكورٍ تكتمل بهم الصورة أمام الكاميرات.
الرعاية ليست مجاملة شخصية، وليست وسيلة لتبادل الأضواء بين المنظم والمسؤول؛ إنها موقف رسمي يحمل معنى الثقة في الفكرة وجدارتها، والتزام أخلاقي بأن الحدث يستحق أن يُرفع باسمه.
حين يضع مسؤولٌ اسمه على فعالية بلا قيمة، فهو يمنحها وزنًا لا تملكه، ويفرغ صفته من رمزيتها. وحين يُستدعى ليقصّ شريط افتتاح فعالية تجارية أو لتكريم من لا علاقة له بخدمة المجتمع، يصبح المشهد أقرب إلى استعراضٍ دعائي لا إلى دعمٍ وطني.
الخطورة أن تتحول الرعاية إلى عادةٍ بروتوكولية تُمنح لمن يملك القدرة على الوصول لا لمن يستحق التقدير. في تلك اللحظة تضيع هيبة الرعاية ومعناها، ويصبح المنصب مطيةً للمصالح لا بوابةً للمسؤولية. والأسوأ من ذلك أن يدخل على الخط أشخاص لا يملكون مسؤولية عامة، لكنهم يملكون المال أو الشهرة، فيشترون لأنفسهم دور الراعي، لا بدافع خدمة الفكرة، بل حبًا في الظهور وتكريس الصورة.
هكذا نرى رجال أعمال يتعاملون مع الرعاية كاستثمارٍ دعائي، ومشاهير منصات التواصل الاجتماعي يضعون أسماءهم على فعاليات لا يعرفون مضمونها، فقط لأن الكاميرات ستكون هناك. فتتحول الفعالية إلى عرضٍ إعلاميٍّ صاخبٍ خالٍ من الجوهر، وتفقد الرعاية معناها النبيل لتغدو صفقة دعائية تبيع الوهم في ثوبٍ رسمي.
إننا بحاجة إلى وقفة مراجعة، إلى ميثاق يحدد متى تُمنح الرعاية، ولمن تُمنح، وبأي معايير.
فالرعاية ليست وسيلة للظهور الإعلامي، بل التزام أخلاقي يُعبّر عن ثقة الدولة في مشروعٍ يخدم المجتمع حقًا. أما تلك الرعايات التي تُمنح دون وعي أو تقدير، فإنها لا ترفع الفعالية، بل تُسقط قيمة المنصب نفسه.
نحتاج إلى وعيٍ مؤسسي يضع معايير واضحة للرعاية، بحيث تُمنح فقط للفعاليات التي تحمل أثرًا ملموسًا في المجتمع، في التعليم، في الصحة، في الثقافة، في الابتكار، أو في تعزيز القيم الوطنية. الفعالية التي لا تضيف معرفة أو تبني وعيًا لا تستحق أن تُحمَل على أكتاف الرموز الرسمية. فالرعاية ليست إضاءة مؤقتة، بل استثمار في معنى، في فكرة، في مشروعٍ يخدم الوطن والإنسان.
الرعاية الحقيقية لا تحتاج فلاشات، لأنها تُضيء بذاتها. هي التي تترك أثرًا بعد أن ينتهي الحفل، وتبقى في ذاكرة الناس لأنها أضافت إليهم شيئًا حقيقيًا. أما تلك الرعايات التي لا تُثمر أثرًا، فلا تختلف عن الضوء المستعار؛ يبهرك لحظة ثم ينطفئ، تاركًا وراءه ظلالًا من الأسئلة حول جدوى ما نرى، ومن يستحق فعلًا أن يُمنح شرف الرعاية ومن لا يستحق سوى مقعد في الصفوف الخلفية.
حين يدرك المسؤولون أن الرعاية ليست مجاملة بل مسؤولية، وحين يفهم المنظمون أن الحضور الرسمي ليس وسيلة تسويق بل امتحان لمضمون الفعالية، عندها فقط تستعيد الرعاية معناها الأصلي، وتصبح علامة على الجدارة لا وسيلة للشهرة. فالمناصب لا تُقاس بعدد الصور، بل بنقاء المواقف، والضوء لا يُكرم من يقترب منه لأجل الظهور، بل من يسعى به ليُنير طريق الآخرين.
ومن يبيع الضوء لن يصنع نهارًا، لأن الشمس لا تُشترى بالتصفيق، بل تُشْرِق فقط حين يكون الفعل صادقًا والنوايا نقية، والرعاية في مكانها الصحيح لا في مسرح المجاملة.










