
فيلم الست.. بين أنسنة الأسطورة وارتباك المعالجة التاريخية
الدكتور/ خالد بن عبدالرحيم الزدجالي
شاهدت فيلم الست في العاصمة التونسية؛ ضمن عرض عام في إحدى دور السينما التجارية، برفقة أصدقاء من السفارة الإيرانية. جاءت المشاهدة في سياق جماعي، سرعان ما تحوّل بعد انتهاء العرض إلى نقاش مفتوح حول الفيلم، واختلاف القراءات والمواقف منه.
وكما هو حال جمهور النقاد والمشاهدين في مصر، اختلفنا نحن الثلاثة في تقييم العمل، وهو اختلاف لا يُقرأ بالضرورة بوصفه فشلًا، بقدر ما يعكس فيلمًا أثار الجدل، وحرّك الأسئلة، ولم يمر مرورًا عابرًا.
شخصيًا، أحببت مشاهدة الفيلم؛ يعود ذلك جزئيًا إلى محبتي لمخرج العمل، وإلى ذكرى خاصة تجمعني به منذ دورة سينمائية في الولايات المتحدة الأمريكية، قبل دخوله عالم السينما مخرجًا محترفًا وصانعًا لعدة أفلام. غير أن هذا القرب الإنساني أو التقدير المهني لا يمكن أن يكون مبررًا لتعليق النظرة النقدية، خصوصًا عندما نتعامل مع فيلم يتناول شخصية بحجم أم كلثوم، حيث تصبح المعالجة السينمائية مسؤولية ثقافية وتاريخية قبل أن تكون خيارًا فنيًا.
● أنسنة الأسطورة : خيار مشروع غير مكتمل.
يحاول فيلم الست أن يقدّم أم كلثوم بوصفها إنسانة، لا أيقونة جامدة أو رمزًا مقدسًا. هذا الخيار، في جوهره، صحيح سينمائيًا، لأن الشاشة لا تتعامل مع الأساطير الصامتة، بل مع شخصيات لها ضعفها وترددها ومخاوفها. غير أن الإشكال لا يكمن في مبدأ الأنسنة ذاته، بل في أن السيناريو لم يذهب بهذا الخيار إلى نهايته المنطقية. فقد حضرت الإنسانية في العلاقات الخاصة والانفعالات الشخصية، لكنها لم تنعكس بالعمق الكافي على المسار الفني، ولا على طبيعة القرارات المصيرية التي صنعت تجربة أم كلثوم داخل بيئة فنية شديدة التنافس.
● المكياج : خلل تقني مؤثر لا يمكن تجاهله..
من أبرز الملاحظات السلبية، وأكثرها إزعاجًا، مسألة المكياج. الخلل هنا لم يكن في عدم الشبه، بل في غياب الاستمرارية الزمنية. ظهرت فروقات واضحة بين مشهد وآخر يفترض أنهما في الفترة الزمنية نفسها، سواء في ملامح الوجه أو درجة التقدّم العمري. هذا التناقض البصري كسر الإيهام الزمني، وأربك المتلقي، وأضعف الثقة بالبناء البصري للفيلم. في عمل سيرة ذاتية عن أم كلثوم، حيث تلعب الذاكرة الجمعية دورًا محوريًا، يصبح المكياج عنصرًا سرديًا لا تقنيًا فقط، وأي خلل فيه ينعكس مباشرة على التلقي، بل يمكن اعتباره أحد أسباب عدم رضا شريحة من الجمهور.
● ارتباك السؤال المركزي في السيناريو..
يعاني سيناريو الست من غياب سؤال مركزي واضح. لا يحسم الفيلم منذ البداية ما إذا كان يريد أن يكون سيرة فنية، أم قراءة إنسانية، أم تفكيكًا للأسطورة بوصفها رمزًا ثقافيًا. هذا التردد انعكس على بنية المشاهد، التي تنتقل بين مستويات مختلفة دون رابط درامي صارم. تُقدَّم لحظات قوية في ذاتها، لكنها لا تُراكم أثرًا حقيقيًا في مسار الشخصية، فيبدو السيناريو وكأنه يلمّح أكثر مما يصرّح.
● ضعف الصراع الدرامي..
يفتقر الفيلم إلى صراع مركزي ممتد؛ لا خصم واضح، ولا معركة فنية طويلة النفس، ولا مسار تصاعدي يُجبر أم كلثوم على دفع ثمن حقيقي مقابل النجاح. الصراعات المطروحة غالبًا نفسية أو اجتماعية، لكنها لا تتكثف ولا تبلغ ذروة حاسمة. في فيلم عن فنانة صنعت مجدها وسط بيئة مزدحمة بالأصوات والطموحات، يبدو هذا الغياب إضعافًا جوهريًا للبنية الدرامية.
● أين كانت أم كلثوم وسط زمنها ؟..
السؤال الأهم الذي يتجاهله السيناريو : ما موقع أم كلثوم وسط من سبقوها وعاصروها؟
مصر في تلك الفترة لم تكن ساحة فارغة، بل كانت حافلة بالأصوات القوية والنجوم والمشروعات الغنائية المتصارعة.
أم كلثوم لم تصل إلى القمة بسهولة، ولم تُمنح الصدارة بلا مقابل؛ كانت واعية بالمنافسة، ومدركة أن التفوق لا يتحقق بالموهبة وحدها، بل بالعمل، والجهد، والعطاء، والاختيارات الصعبة. هذا السياق التنافسي شبه غائب عن الفيلم، ما يجعل التميّز يبدو وكأنه نتيجة طبيعية، لا ثمرة صراع طويل.
● الشخصيات المحيطة والغياب الدرامي..
يقدّم الفيلم عددًا من الشخصيات المحيطة بالبطلة، لكنها في الغالب تظهر بوصفها وظائف درامية مؤقتة، لا شخصيات ذات أقواس تطور واضحة. يزداد هذا الخلل وضوحًا مع تهميش أو اختزال شخصيات محورية شكّلت جزءًا أساسيًا من مشروع أم كلثوم الفني، مثل محمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وبليغ حمدي. غيابهم لا يُعد نقصًا معلوماتيًا فحسب، بل إخلالًا بالمنطق التاريخي والدرامي.
● اجتهاد الممثلين وعناصر القوة التقنية..
في المقابل، لا يمكن إنكار اجتهاد الممثلين، سواء في الأدوار الرئيسية أو الثانوية. بدا واضحًا حرصهم على تجنّب التقليد المباشر أو الكاريكاتوري، وهو أمر بالغ الحساسية في فيلم عن أم كلثوم. غير أن هذا الجهد التمثيلي يصطدم أحيانًا بعقبات بصرية، وعلى رأسها المكياج، الذي خذل الأداء بدل أن يدعمه.
ويُحسب للعمل تمتّعه بقدر من حرية الإخراج، ومونتاج حافظ على سلاسة السرد وتخفيف حدة القفزات الزمنية، إضافة إلى موسيقى تصويرية موظفة بحذر دعمت الحالة الشعورية دون ابتزاز عاطفي، كما أن ظهور نجوم كبار في أدوار صغيرة منح الفيلم زخمًا جماهيريًا واضحًا، وأسهم في دفعه بقوة نحو النجاح التجاري، وهو ما يفتح تساؤلًا مشروعًا حول الفارق بين الإعجاب الجماهيري السريع، والرضا الوجداني العميق لدى جمهور تشكّلت علاقته بأم كلثوم بوصفها ذاكرة لا مجرد سيرة.
ويبدو أن الجدل الذي أثاره الفيلم يتجاوز العمل نفسه، ليمس أسئلة أوسع تتعلق بحدود الجرأة في أفلام السيرة، وصراع الذاكرة الجمعية مع الرؤية السينمائية، والفارق بين النجاح التجاري والأثر الوجداني، وهي أسئلة لا تخص فيلم الست وحده، بل موقع السينما العربية من رموزها الكبرى.
● خـلاصـة..
فيلم الست عمل مجتهد، محترم في نواياه، ومثير للنقاش. عناصره التقنية، وإخراجه، وموسيقاه، وأداء ممثليه، كلها تدفعه نحو النجاح التجاري، لكنه يترك عند شريحة من الجمهور، وخصوصًا المحبين الحقيقيين لأم كلثوم، أثرًا بلا رضى كامل؛ فهؤلاء لا يبحثون فقط عن جودة الصنعة، بل عن الإحساس بالإنصاف والعمق، وعن سيرة تكشف أن العظمة لم تكن هبة سهلة، بل ثمرة صراع طويل، وعمل شاق، ووعي قاسٍ بزمن لا يرحم.
وربما يبقى السؤال الأهم : هل من السهولة حقًا اختزال مسيرة بحجم أم كلثوم في سرد سينمائي واحد، دون أن يترك ذلك بالضرورة مساحات من الالتباس، أو شعورًا بعدم الاكتمال لدى من تشكّلت علاقتهم بها بوصفها تجربة زمن لا مجرد سيرة؟.









