بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

عندما يفكّر العقل بحرية: رحلة في عوالم التفكير الناقد

د. محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد

 

 

في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات، وتتصادم فيه الآراء، وتُغمر العقول بسيولٍ من الأخبار والمعلومات، يظلّ التفكير الناقد هو المنارة التي تهدي السائرين في ليل الزيف الطويل. ليس التفكير الناقد علماً جامداً يُدرّس فحسب، بل هو فنّ الحياة بعينٍ مبصرة وقلبٍ لا ينخدع.

العقل الناقد لا يُساق بالظن، ولا يُخدع بالبريق، ولا يكتفي بما يُقال؛ بل يسأل، يتأمل، يُمحّص، ثم يختار. إنّه العقل الذي يُحب الحقيقة أكثر من راحته، ويُؤمن أن السؤال ليس شكًّا في الوجود، بل بحث عن يقينٍ نقيٍّ من غبار التلقين.

عندما يفكّر الإنسان بحرية، يتحرّر من سطوة الجماعة ومن أسر العادة، فيرى ما لا يراه المألوفون. فالعقل الحر لا يخاف من الأفكار الجديدة، بل يُصغي إليها، ويزنها بميزان المنطق لا بهوى النفس. ومن هنا تنبت شجرة الوعي، وتثمرُ يقظةً لا تنام.

التفكير الناقد لا يعني المعارضة الدائمة، ولا الهدم لمجرد الهدم، بل هو فن البناء على أساسٍ صلبٍ من الدليل والبرهان. هو أن تقول “لا” حين يكون الصمت خيانة، وأن تقول “نعم” حين يُنصفك العقل لا الهوى. هو أن تُمسك بالكلمة كما يُمسك الجراح بمبضعه: حذرًا، دقيقًا، مخلصًا للحقيقة وحدها.

وفي عالمٍ تتداخل فيه الحقائق بالأوهام، وتُباع فيه العقول بثمن الشهرة أو المصلحة، يصبح التفكير الناقد سلاحًا من نور. إنّه درع الوعي الذي يقي الإنسان من التلاعب، ويمنحه القدرة على أن يعيش حرًّا، حتى وهو بين الجموع.

إنّنا لا نحتاج إلى عقولٍ تحفظ، بل إلى عقولٍ تفهم وتُحلّل وتُدقّق. فبقدر ما نزرع في أبنائنا مهارة السؤال، سنحصد أمةً لا تُخدع بسهولة، ولا تُقاد بالعناوين الجاهزة. التفكير الناقد هو الطريق إلى الكرامة الفكرية، وإلى إنسانٍ يملك ذاته قبل أن يملك رأيه.

فلتكن دعوتنا اليوم: أن نفكر… لا كما يُراد لنا، بل كما ينبغي للعقل أن يفكر. فبالتفكير الناقد، نرى النور في العتمة، ونُميّز بين الصدى والصوت، وبين الحقيقة وصورتها. إنه ببساطة… فنّ أن تكون إنسانًا يملك وعيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى