بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

التـقاعـد .. بداية المستقـبـل..

الكاتبة/ رحمة بنت مبارك السلماني

 

التـقاعـد .. بداية المستقـبـل..

 

في نهاية العمر الوظيفي يذهب عمل الكثيرين أدراج الرياح وينتهي بهم المطاف إلى التقاعد وهي المرحلة  التي يكره أو ينزعج غالبية الناس من الوصول إليها أو مجرد التفكير فيها؛ لأنها تمثل بالنسبة لهم كابوس مزعج أو شبح مخيف، فهي مرحلة حرجة تحمل في ثناياها هموم كثيرة حيث يظنون أنه بمجرد إحالتهم إلى التقاعد عن العمل أنهم أصبحوا فجأة عجزة وبلا فائدة وقد وصلوا إلى خريف العمر، فغدوا ينظرون إلى سنوات عمرهم القادمة نظرة سوداوية مليئة بالكآبة والتشاؤم، معتقدين بأنها نهاية صراعاتهم في الحياة، وأنه يجب عليهم التوقف وانتظار ساعة الرحيل عن الدنيا، وكأن السجادة الحمراء قد سُحبت من تحت أرجلهم وفقدوا بريق النجومية ولمعان الشهرة بلا رجعة بفقد مكانتهم وكيانهم الوظيفي، وذلك بسبب ارتباطهم الوثيق بالوظيفة وتمسكهم الشديد بها لسنوات طويلة، وفي المقابل هناك قلة قليلة من الذين ينتظرون مرحلة التقاعد بفارغ الصبر وعلى أحر من الجمر حتى يتفرغون لإدارة أعمالهم الخاصة لأنهم يؤمنون بأنها مرحلة من مراحل الحياة التي لا بد من التدرج فيها.

إن فترة التقاعد هي أشبه بخدعة أو أكذوبة صغيرة يصدقها بعض المتقاعدين عندما يتوقفون عن العمل بمحض إرادتهم وهم في الواقع لم يكونوا مجبرين على ذلك، وعندما يتصورون أنها حياة فارغة بلا أهداف وبلا روح برغم أنها مليئة بألوان الحياة، حيث يمكن الاستمرار في العمل بطرق مختلفة وفي ظروف أخرى، إنها في حقيقة الأمر هي بداية للمستقبل وتحقيق طموحات وأحلام مؤجلة وبداية لخلق فرص عمل جديدة، وربما لإيجاد مشاريع أخرى تشمل مختلف جوانب الحياة بصفة عامة، فإن هناك ثمة أعمال كثيرة يستطيعون إنجازها وقد يحققون من خلالها ما لم يتمكنوا من تحقيقه خلال سنوات عملهم بوظيفتهم الروتينية، التي كانوا يمارسون مهامها لعشرات السنين بلا شعور أو حماس، وربما دون إنجاز يذكر أو دون تميز فيها فقط لكونها مصدر دخل لهم.

أيها المتقاعد .. هل تعلم أنك أنت الآن في المستقبل الذي كنت تحلم به ؟ وأنك لا زلت على قيد الحياة وعمرك لم ينتهِ وتتمتع بصحة جيدة ولديك عقل واع يحمل كتلة ضخمة من الأفكار وكم هائل من المعارف والخبرات المتراكمة ؟، من المهم أن تقر في قرارة نفسك بأنك موظف جديد تتمتع بكامل قواك الجسدية والعقلية والنفسية وتسري في روحك الحياة والحيوية والنشاط، وأنك بالفعل تعيش أجمل أيام المستقبل الذي كنت تسعى للوصول إليه بعد أن عشت سنيناً تلهث للقائه وتتلهف لمصافحته، وها قد أصبح واقعاً تعيشه وتراه بعينيك فلا بد أن تحسن التعامل معه وتكرمه، فلا تقعد مكتوف الأيدي متلفتاً للخلف تستجدي السنين الماضية كي تعود من جديد، إن كنت سابقاً قد أعددت مخططاتك باشر فوراً في تنفيذها ولا تتخاذل لا سيما إن كنت تملك جميع المؤهلات والامكانيات لذلك، وإن لم تفعل ذلك فلديك الوقت الكافي للتفكير والتخطيط والإعداد والتنفيذ، فلقد أصبحت ذو خبرات كثيرة وواسعة في اتخاذ خطواتك وقراراتك، كما يمكنك أخذ مشورة أحد المقربين لديك من أفراد عائلتك أو أصدقائك أو المعنيين والمختصين بالمجال الذي ترغب العمل فيه.

إن هذه المرحلة من الحياة بالذات ليست مرحلة للتوقف عن العمل والاستلقاء طوال الوقت والتفكير في المستقبل البائس، وإضاعة الوقت في الندم والتحسر على ما مضى من العمر، والوقوف على حافة الهاوية بلا هدف أو طموح كمقاتل خسر النزال وعاد بلا درع أو سلاح، بل هي بداية التأمل في جمال الحياة والاستمتاع بقيمة الوجود واستغلال الطاقات الكامنة في الكيان البشري، والاهتمام بالصحة وممارسة الرياضة، والتعمق في البحث المتواصل عن العلم والمعرفة واستمرارية الاطلاع واستغلال الوقت في اكتساب المزيد من التعلم الذاتي، على سبيل المثال تعلم لغة جديدة أو مهارة ما أو برنامج أو تخصص جديد قد يثري مهاراتك ويصقل قدراتك العقلية والابداعية ويسهم في تطويرها لمواكبة كل ما هو جديد، فيمكنك أن تسافر وتستثمر سفرك لتحصل على الاستجمام والمتعة والاستكشاف والتعلم فتحصد الكثير من الفوائد والمآرب في آنٍ واحد.

من المهم أيضاً أن تقوم باستكشاف المستجدات في التقنيات الرقمية وتحاول الاطلاع والتعرف عليها، لأننا في الواقع نعيش عالم رقمي متطور ومتغير، لذا أنشأ لك حساب على مواقع التواصل الاجتماعي وابدأ بالتواصل مع العالم تعرف على أصدقاء جدد من مختلف الأعمار تعرف على هواياتهم وتطلعاتهم، انطلق وحلّق في فضاءات واسعة وإياك أن تسجن نفسك في قفص العمر لأنه مجرد رقم، فعمرك الحقيقي يحدده أسلوب حياتك ونظرتك للحياة وقوة أفكارك وسلاسة شخصيتك وجمال روحك وطريقة تعاملك مع من هم حولك، حيث يمكنك من خلال علاقاتك مع فئات مختلفة من البشر اكتساب نظرة أشمل وفكرة أعمق وفهم أوضح وظروف أفضل للبدء في مشروعك الخاص، ومن هنا قد تبدأ بالترويج لمشروعك الخاص عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.

إن مرحلة التقاعد هي بمثابة محطة فاصلة بين مرحلة وأخرى للتجديد واستعادة الحماس والقوة والمرح والاستمتاع بالحياة، كمكافأة وفرصة ذهبية مناسبة لأخذ قسط من الراحة والاسترخاء والاستجمام وصفاء الذهن لبعض الوقت ومتى شئت ذلك، ومن ثم مواصلة العمل حسب البرنامج الذي تضعه وتعده أنت لنفسك، والذي سيكون مختلفاً تماماً عن العمل الروتيني الذي اعتدت عليه وبعيداً عن الرتابة والملل، فأنت مدير نفسك وستمارس عملك الجديد بكل شغف ومرونة لأنك تحررت تماماً من قيود الدوام اليومي والرسميات، كما يمكنك توظيف بعضاً أو شيئاً مما تعلمته طوال السنوات الماضية في حياتك العملية الجديدة والعمل على تطويره وجعله أكثر مرونة وألا يتطلب جهداً كبيراً أو موازنة مالية كبيرة، والأهم من ذلك الجرأة في اتخاذ القرار الصائب والبدء بتنفيذه، اجعل عملك الخاص أكثر بساطة ومتعة وحدد الفوائد المتوقعة أو النتائج المرجوة واعمل على تأمين الحصول عليها، فمثلاً بالنظر إلى سنوات خبرتك العملية يمكنك أن تصبح مدرب موارد بشرية لتكون خير مرشد للأجيال القادمة، كما يمكنك أن تُعين الطلبة والدارسين في إعداد تقاريرهم وبحوثهم من خلال توجيههم وإلهامهم بأفكار مميزة.

ربما خلال سنوات عملك الماضية لم تكن مهتماً باستكشاف نفسك أو ربما لم تجد الفرصة لذلك لما لا تحاول ذلك الآن؟!، نعم إنها الفرصة المناسبة لتحدي شغفك الكامن داخلك واكتشاف الذات ومعرفة ما تحب وما تكره وما هي هواياتك واهتماماتك وما تحب ممارسته لصنع وصياغة بصمتك الخاصة، أو ما هي رغباتك وما تتمنى أن تقوم به بعيداً عن كل تلك الضغوطات التي كنت تعاني منها سابقاً، فذلك سيمنحك طاقة إيجابية كبيرة ويجعلك تستشعر قيمة ذاتك العظيمة ويضفي لشخصيتك طابعاً مميزاً، فليس هناك عمر محدد لممارسة الهوايات والاهتمامات وتحقيق الانجازات، وبما أن الأوضاع حالياً مواتية فقد يمثل ذلك نوع من الاستثمار الذي قد يوفر لك أرباحاً ماديةً أو دخلا آخر، أنت الآن من المميزين القليلين المحظوظين ولقد أنجزت الكثير ولا زلت تواصل الانجاز، لذلك يمكنك تدوين مذكراتك أو سيرتك الذاتية بكل ما فيها من مواقف وتجارب وإخفاقات ونجاحات ليستفيد منها الآخرون.

كما أن هناك ثمة طرق وأوجه أخرى كثيرة للعمل وتحقيق الإنجازات وإثبات الذات من خلال بذل الجهد الإنساني بعيداً عن الأرباح الدنيوية الزائلة، فإن كنت مكتفياً مادياً ولا تسعى لأية مآرب مادية فإن أبواب الخير كثيرة ولك أن تكون شخص مؤثر وفعال لتترك أثراً رائعاً في حياة الآخرين، كأن تُسهم في إعداد مراكز لنشر الدين الإسلامي وتعليم وتحفيظ القرآن الكريم، أو تبنّي مشروعاً خيرياً لتكون من ضمن أولئك الذين يزرعون السعادة والبهجة في قلوب المحتاجين من الفقراء والأيتام والمعسرين وكبار السن ولو بجزء أو شيء قليل، فالعطاء نبعٌ لا ينضب أبدًا وإسعاد الناس مشروع ناجح لا يُكلّف كثيراً في الغالب، ولكنه ينصع فرقاً كبيراً ويترك بصمةً واضحةً لا تُنسى (وفي ذَلِكَ فَلْيَتَنافَس المُتَنَافِسُونْ).

إن العقل البشري هو من أعظم النعم التي حبانا الله لما فيه من مميزات وصفات وملكات تجعل الانسان يتميز به عن غيره من المخلوقات، فهو جهاز حيوي لا يتوقف عن التفكير والابداع والابتكار والتطوير وخلق فرص وأفكار جديدة في مختلف جوانب الحياة، لذلك فإن هناك الكثير من الأفكار التي ستولد والغير متوقعة التي لا يمكن لمقال استيعابها، وستستمر بالتعاقب والتجدد والتطور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكذلك الآمال والطموحات لا تنتهي ولا تتوقف عند عمر معين أو مرحلة محددة بل تتعاقب كتعاقب الأنفاس والنبضات، فكل يوم يمنحه الله لنا هو بمثابة درس جديد نتعلم منه الكثير ونكتشف فيه ما قد نجهل، كي نوقن أننا مهما تقدمنا في العمر ستظل ثمة أشياء نجهلها أو معارف تنقصنا، وستظل الحياة تتوهج وتشع جمالًا في أعيننا ما دامت الأنفاس والدماء تسري في عروقنا.

إن إشهار جمعية خاصة للمتقاعدين لهو مبادرة جيدة وخطوة سديدة من المؤكد أنها ستعود بالمنافع والفوائد العديدة على المتقاعدين وأبناء الوطن كافة، من خلال استغلال الخبرات والكفاءات وتضافر الجهود من أجل خلق فرص عمل متجددة وإبداعية تضفي على العمل لوناً آخر ممزوجاً بالدافعية والعطاء والوطنية والانتماء والولاء والمسؤولية المجتمعية، وأنت يامن لا زلت على رأس عملك كيف ستستعد لمرحلة التقاعد ؟، هل فكرت فعلاً ماذا ستفعل في مرحلة (بداية المستقبل) ؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى