بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

حينما تعانق الروح عبق الأصالة.. رمضان وسلطنة عمان

الدكتور محمد السيد يوسف لاشين

أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد 

حين يحلُّ شهر رمضان في سلطنة عمان، تتزين البلاد بأجواء روحانية مميزة، يمتزج فيها عبق التقاليد العريقة بنسائم الإيمان والرحمة، يختلف رمضان في عمان عن أي مكان آخر، ليس فقط بسبب عادات العمانيين الفريدة، بل لأن الشهر الكريم يتحول إلى سيمفونية متناغمة من الطقوس التعبدية والاجتماعية التي تلامس القلب، وتروي الروح.

فما أن يتم الإعلان عن رؤية الهلال، تعمُّ الفرحة أرجاء عمان، وتبدأ الاستعدادات لاستقبال الشهر الفضيل، وتصدح المساجد بتكبيرات التهليل، وتضاء البيوت بمصابيح الفرح، فيما تتعالى دعوات التهنئة بين الأهل والجيران، في تجسيد حقيقي لروح الأخوة والترابط.

ومع غروب الشمس، تجتمع العائلات العمانية حول موائد الإفطار، حيث تحضر الأطباق التقليدية الشهيرة مثل “الثريد”، و”الهريس”، و”الشوربة العمانية”، إضافة إلى “اللقيمات”، و”السمبوسة”، وغيرها من الأكلات التقليدية التي تحمل نكهة التاريخ والتراث، أما “الشاي” في عمان الممزوج بالهيل والزعفران، فيبقى رفيق السهرات الرمضانية في المجالس التي يحيطها الدفء والأنس.

وما أن ينتهي الإفطار حتى تكتسي المساجد بالأنوار، وتمتلئ بالمصلين الذين يؤدون صلاة التراويح بخشوع يملأ الأرجاء، ويحرص العمانيون على ختم القرآن، فيحضرون حلقات التلاوة والتدبر، في مشهد يجسد روحانية الشهر المبارك.

كما يتميز الشهر الفضيل في عمان بإقامة “السبلة الرمضانية”، وهي تجمعات تقليدية في المجالس يلتقي فيها الرجال لتبادل الأحاديث وتدارس أمور الدين والدنيا، ومن العادات القديمة التي لم تعد منتشرة على نطاق واسع، إلا أن بعض المحافظات العمانية ما زالت على عهدها بها هي “القرانقشوه”؛ أو كما يسميها بعض العمانيون وأهل بعض دول الخليج؛ حيث يخرج الأطفال بملابسهم العمانية التقليدية الجميلة حاملين أكياس القماش المطرزة، متنقلين بين البيوت لجمع الحلويات والمكسرات، وسط أهازيج الفرح والابتهال.

وكالعادة التي لا تنتهي يحرص العمانيون في رمضان على تقديم الصدقات وتوزيع “الطعام الرمضاني” للمحتاجين، إذ تُقام موائد الإفطار الجماعي في المساجد والطرقات، ويتسابق الناس في تقديم التمور والماء عند إشارات المرور، في مشهد يعكس نُبل أخلاق أهل عمان.

ومع دخول العشر الأواخر، تتضاعف الروحانيات، وتُقام صلاة التهجد في أجواء يغمرها الصفاء، حيث يترقب الجميع ليلة القدر بخشوع وإخلاص، كما تزداد وتيرة الاعتكاف، لينعم العابدون بجمال وفضل القرب من الله في هذه الليالي المباركة، وقبيل العيد، تعمُّ الأسواق أجواء مبهجة، حيث يقيم العمانيون أسواق الهبطة وهي أسواق تقليدية تقام في أواخر الشهر المبارك لشراء “الحلوى العمانية” الشهيرة، والأبقار والأغنام، والملابس الجديدة والهدايا، استعدادًا ليوم الفرح، وفي صبيحة العيد، يجتمع الأهل والجيران لتبادل التهاني، ويمضي الجميع في أجواء احتفالية مميزة تجمع بين التراث والتقاليد العمانية الأصيلة والبهجة والسرور.

أخيرا.. إن رمضان في عمان يمتزج فيه الماضي بالحاضر في بهاءٍ لا يُضاهى، رمضان في سلطنة عمان ليس مجرد شهر صيام، بل هو رحلة روحية وتجربة وجدانية تسكن الذاكرة والوجدان، إنه شهر تتعانق فيه النفحات الإيمانية مع عبق التقاليد العمانية العريقة، ليبقى شاهدًا على أصالة هذا الوطن وكرم أهله الذين يحولون أيامه إلى لوحة مكتملة الألوان من الخير والمحبة والإيمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى