
قراءة في فكر الاستاذ الدكتور “ناجي التكريتي”..
الدكتور / محمد المعموري
كاتب وباحث عراقي
في عالم الفكر والإبداع، يبرز اسم الدكتور ناجي التكريتي كشخصية فريدة تجمع بين عمق الفلسفة وثراء الأدب ، شاب في تفكيره شيخ في حكمته مثقف ينقلك في صفحات الثقافة حيث تشاء، بل تتفتح في أفق فكره كل طلاسم الفلسفة، فتغرق في مفاتنها، وتنتقل من الفلسفة إلى الأدب، ليشدو قلمه بألحان الشعر وقوافيه.
لا يتوقف ذاك الينبوع الإبداعي عند شواطئه، حتى ينقلك بين صفحات قصة أو يطرز أدبه بقافية، وربما ينتهي بك المشوار الذي لم يبدأ بعد عند تغريده في ديوان من دواوين شعره أو نثر، أو كلاهما معًا. فتتعمق روحك في كل هذا لتجد أنك أمام إنسان يريد أن يكتب كل شيء في خلده، لينقلك وينقل من يقرأ له من ماضٍ أو حاضر أو ربما مستقبل هو يعلم تنقله بين صفحاته.
معلم حيث بدأ، واجتهد فانتقل إلى الجامعة، ولم ينتهِ، فأخذه حلمه إلى إكمال دراسته بين تكريت عندما بدأ، إلى بغداد، ومنها إلى مدن الغرب حيث تعمق في دراسة الفلسفة …، فأخذته فلسفة لإكمال دراسته العليا، ولم يكن فقط يدرس ليكون، بل كان يعلم ما يريد أن يصل إليه ، فعلم أن مفتاح حياته بين صفحات مؤلفاته، والتي زادت عن المئة وعشرين مؤلفًا بين فلسفة وقصة وشعر.
من الشعر بين القافية والحر والشعبي، فهو يدرك أن كل ما يمر بخاطره ليس ملكه، وأن كل ما يكتبه قلمه هو ملك قرائه، ولم يبخل به عليهم، فهو الجواد الكريم.
عاصر بناء الدولة العراقية منذ نشأتها، وتنقل مع تنقل تقلباتها، وعايش حركاتها، ودرس أيديولوجيتها، ولم يتأثر قط بفكر، بل لن ينحاز إلى أي منهم.
وقد عبر عن نفسه في موسوعته الفلسفية “يوميات عابر سبيل”: “لا أنكر أنني كنت وما أزال أشعر بشعور قومي عربي يعتز بعروبته، ويأسف لما أصاب الوطن من تمزق وتجزئة على أيدي الصليبيين الجدد من إنجليز وفرنسيين. الغريب في أمري أنني منذ ذلك الوقت، لم أتعصب لجهة معينة، بل كنت أنظر إلى زملائي الطلبة كلهم، أن الشعور الوطني هو الذي يأخذهم إلى هذا الاتجاه أو ذاك).
لقد كان معتدلًا، متفهما، يدرك أن أي طموح سياسي قد يفقده هذا البحر من الإنجازات، وأن أي انحياز لأية جهة سوف يذهب به إلى جانب من الشاطئ فيقد ما كان يصبو إليه. لذا فإن همته امتزجت مع فلسفته، وأصبح يمتلك السياسة لا تمتلكه، وأخذ منها ما يرغب فيه وترك ما تريده منه.
فلم يكن يسعى لهدف قد يوقفه عن إبداع قلمه ونبض فكره وتوجهه وتنقله بين فلسفة وأدب، ولم ينسَ أنه كان معلمًا، فاغدق في فصول وساحات العلم ما يذكر بأثره ، كان يحلم كما نحلم بجيل متعلم يخترق كل الصعاب ليبني ويثقف ويعلم وما ترك شاردة ولا واردة الا سلكها بين تدريس ومناقشة بحوث ليرتقي طلابه الى دراستهم العليا وهو يعلم انه سيغادر قاعات العلم يوما فكان يحث كل من يجد فيه امل لاكمال مسيرته ، عمل واجتهد وكان القدوة كان عمله يغلب صمته، وكانت اثاره تدل عليه ولا زال شيخنا يتنقل بنا بين رحاب افكاره ليمضي مسرعا وسيبقى بأذن الله مبدعا ليعلم ويتعلم.
ألسنا سعداء بوجوده معنا، فهو ماضٍ جميل وحاضر لم تتبين معالمه، ومستقبل ندعو الله أن يطيل المكوث بيننا. إنه فيلسوف قد تعلم من الحياة أنها فانية، ولكنه يسعى لتكون بين صفحات كتبه هي الباقية.