
الضرب لإسرائيل .. والنواح للعرب..
زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عُماني مهتم بالشأن السياسي الإقليمي
يقول الكاتب فهمي هويدي: «اليوم انصهرَت المذاهب ولم يبقَ لنا سوى مذهبين؛ فإما أن تكون مقاومًا أو تكون صهيونيًّا، وكفى». ومن المؤكد أنّ هويدي كان يتحدّث عمّا ينبغي أن يكون عليه الموقف الطبيعي، خاصة في ظلّ ما تعرّضَت له إيران – الدولة الإسلامية الشقيقة – من عدوان سافر من قبل الكيان الغاصب ومن أمريكا. لعل هويدي لم يتابع موقع «إكس»، وإلا لأُصيب بغثيان حاد يستدعي بقاءه في المستشفى من شدة ما تقيأه بعض المعلقين العرب تأييدًا لهذه الضربات المشينة التي فجّرت موجة من البكاء والنواح في أوساط بعض العرب، وكأنّ الصواريخ انطلقت من طهران لتصيب كرامتهم هم، لا العدو.
لا يمكن تجاهل الانقسام المرير الذي أصاب الشخصية العربية في العقود الأخيرة إلى حدّ أن نرى من يُصفّق بلا خجل لضربات إسرائيلية على أراضٍ عربية وإسلامية، سواء كانت غزة أو إيران. وهذا خلافَ جيل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مثلًا؛ فرغم ما عرفه ذلك الجيل من نكسات إلا أنّ الإحساس الوطني والقومي والديني كان يُوحّده، وكانت مشاعر الغضب أو الفخر أو الإهانة تُحرّك الملايين بغض النظر عن مواقعهم الجغرافية، أو خلفياتهم العرقية أو المذهبية.
ما أود أنّ أشير إليه هو أنّ أصوات هذه الفئة من المتألمين لم تكن خافية قبل الحدث؛ فأصحابُها كانوا يردّدون نغمة قديمة متجددة أنّ «الكيان الصهيوني لن يحارب إيران؛ لأنّ بينهما اتفاقات سرّية، وتحالفات خفية، وأنّ إيران لا تختلف عن الكيان الصهيوني في شيء». هذه النظرية التي تدل على السذاجة في التحليل كانت تتردّد وكأنّها آياتٌ مُنزّلة، لكن عندما وقعت الضربة فعلًا تغيّرت النغمة، وتحوّل المروّجون لتلك «المؤامرة المشتركة» إلى مؤيدين للعدوان بحجج مختلفة منها أنّ «الله يضرب الظالمين بعضهم ببعض»، والمثير للاشمئزاز والقرف أنّ هؤلاء هم الذين أيّدوا الكيان في حربه على غزة، وتفوّهوا ضد حماس وغزة بكلام لا يجرؤ إبليس نفسه أن يقوله.
المُحزن أنّ هناك ممن يُفترض أنهم نخبة الرأي والعقل ممن يسمون تجاوزًا مشايخ وإعلاميين وكتّابًا ومثقفين وأكاديميين، وتسبق أسماءَهم الألقاب انحدر كثيرٌ منهم إلى مثل هذا الخطاب الذي يؤيد ضربات العدو لجار مسلم نتأثر بما يتأثر به، ويتأثر بما نتأثر به؛ بحكم الجوار، والجغرافيا، والتاريخ، والمصير المشترك وعَيْنا ذلك أم لم نعِ. وبذلك أثبتت «إسرائيل» أنها نجحت في تدجين العقول، وصناعة أقنعة تقول علنًا: «لا إله إلا الله. محمد رسول الله»، لكنها تخالف حقيقتها ليل نهار. وفي اعتقادي أنّ هذا النفوذ إلى عقول وأذهان العرب هو أكبر انتصار حققته إسرائيل؛ إذ غيّرت مفاهيمهم، واستطاعت أن تشكّلهم حسب مقاساتها؛ فأيّ انتصار أكبر من هذا ؟!، ومن هنا يحقّ لبنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل أن يفخر علنًا وبصوت عال عندما قال يوم الخميس التاسع عشر من يونيو 2025 لهيئة البث العبرية: «بعد قيام إسرائيل واجهنا عالمًا عربيًّا موحدًا، وفرقناه تدريجيا».
ومن يراجع المشهد عن كثب يدرك أنّ مقولة «التحالف الخفي» المزعومة صارت لازمة إعلامية منذ سنوات، ووجدَت آذانًا مصغية لأسباب كثيرة منها عجز الدول العربية عن مجاراة النجاح الإيراني في تكوين دولة حقيقية رغم حصارها لما يقرب من نصف قرن، ومنها ما يتعلق بالعقول العليلة التي تؤمن بالمذهبيات الضيّقة؛ حيث استطاعت إسرائيل أن تزرع ذلك الخوف عبر بعض وكلائها من «الشيوخ» المدجّنين، وممن يظهرون على الفضائيات بكثرة يرددون أنّ «العدو إيران وليس الكيان» لدرجة أن ملّ الناس من كثرة ترديد هذه النغمة النشاز.
سبق لي أن كتبتُ في هذه الجريدة مقالًا تحت عنوان «قدر إيران مع العرب» نُشر يوم الاثنين 6 أكتوبر 2024 ذكرتُ فيه أني «لاحظتُ أنّ معظم – إن لم يكن كلّ – من يتهم إيران بالخيانة غفل عمدًا أو جهلًا أنّ الوقوف مع المقاومة العربية في فلسطين ولبنان وفي كلّ مكان في الوطن العربي هو مسؤولية عربية قبل أن تكون إيرانية؛ إذ يريد مثل هؤلاء أن تحارب إيران بالنيابة عن العرب، وعندما تتعرّض لهزة ما فإنّ الكلّ يتسابق في كيل التهم لها. ولا يرى هؤلاء في التآمر العربي، ولا في التسابق إلى دعم وحماية الكيان الصهيوني من قبل بعض العرب أيّ مشكلة».
لا شك أنّ الضربة الإسرائيلية لإيران كانت من القوة بمكان، إلا أنّ الرد الإيراني وما نتج عنه شكّل سابقة تاريخية في إسرائيل، وترك أثره العميق داخل تل أبيب، وحقق التوازن، وأفشل المشروع الغربي (حتى الآن) بأن تكون إسرائيل وحدها صاحبة الكلمة العليا في المنطقة، مع الإشارة إلى أنّ الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد.
هناك حقيقة لا أدري هل أصحاب القرار في الدول الخليجية يعلمون بها أم لا؟ فوجودُ إيران قوية تستطيع أن تتصدى للكيان هو في مصلحة هذه الدول التي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها أمام أصغر خطر قد يحدق بها، ومتى ما استفرد الكيان بالمنطقة ستدفع هذه الدول ثمنًا غاليًا وباهظًا، ولن تسعفها التريليونات التي دفعتها لأمريكا مقابل الحماية في شيء.
رغم ما تعانيه إيران من اختراقات أمنية -وهي كثيرة جدًا، وأشرتُ إليها في مقال سابق-؛ إلا أنها تبقى أنموذجًا لكيان حر يُحسب له الحساب، ويملك قراره السيادي، وكم صدق السلطان قابوس -طيّب الله ثراه- عندما قال لويليام جوزيف فالون قائد القيادة المركزية الأمريكية في المنطقة عام 2008: «إيران بلد كبير ولها عضلات، ويجب علينا التعامل معها». وهكذا كانت السياسة العُمانية طوال تاريخها متزنة تجاه الجار إيران وتجاه كلّ الجيران دون إفراط ولا تفريط، وهو الدور نفسه الذي ورثه جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم.
من حقّ إيران أن تدافع عن نفسها بأيِّ طريقة تراها مناسبة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالقوة، ولا مجال للمقارنة بينها وبين دول عربية غيّبت دورها، وفقدت وزنها. فإيران هوجمت؛ لأنها قوية ومؤثرة، وخير دليل على منطق الردع أنّ إسرائيل بعد تصعيدها مع إيران وجّهت تهديداتها نحو باكستان الدولة الإسلامية النووية الوحيدة، وهذا يكفي للدلالة على أنّ الدول العربية ليس لها قيمة ولا وزن، ولا تحسب لها إسرائيل أيّ حساب.
وإذا قارنا حجم الشماتة العربية في الحرب على إيران مع المعارضة الإسرائيلية فإننا نرى دعمًا واضحًا من قِبل قادة المعارضة للحرب، ونسيت هذه المعارضة خلافاتها الداخلية. فنرى مثلا أنّ يائير لابيد – بعد نقده السابق لبنيامين نتنياهو – أعلن دعمه الكامل للحملة العسكرية ضد إيران، واعتبر أنّ الأخطار النووية، والتصعيد الإيراني يفرضان توحيد الصفوف رسميًّا، فيما أيّد بيني غانتس الحرب على إيران وقال: «إنّ الحرب ليست ضد الشعب الإيراني، وإنما ضد نظام يسعى لتدميرنا»، وهذه مفارقة تحتاج إلى دراسة وتساؤل: ما الذي أوصل بعض النواحين العرب للسقوط إلى هذه الهاوية؟!
يبقى أن نقول: إنه إذا كان صوت الشامتين عاليًا الآن فإنّ هناك في المقابل ثابتين على المبدأ لا يبررون الظلم والعدوان. ولعل في مقولة فهمي هويدي رغم بساطتها من البوصلة الأخلاقية ما يليق أن يُعلّق على صدور المؤمنين بعدالة القضايا. والسؤال المفتوح الآن: ماذا سيقول هؤلاء الشامتون عندما يجيء الدور عليهم؟