بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

نأكل حتى التخمة بينما يموت أهل غزة جوعاً..

رحمة بنت مبارك السلمانية

 

في ظل التباين الطبقي الصارخ بين الشعوب، وبينما ترتفع أبراج الرفاهية والبذخ على هضاب بعض البلدان هناك شعوب تكافح لأجل لقمة واحدة أو حتى رغيف خبز، نعيش اليوم في مجتمعات تغُص موائدها بما لذ وطاب من الطعام والشراب ونأكل حتى التخمة وربما أكثر، دون أن نتوقف لحظة لنفكر في أولئك الذين لا يجدون ما يسدون به رمقهم، وفي مقدمتهم الفلسطينيون في غزة الذين لا يعانون من الاحتلال والتهجير فقط بل من التجويع أيضاً، لقد سُلبت منهم حقوقهم وحُرِموا من أبسط مقومات الحياة، فكيس الدقيق حلم قد لا يتحقق بالنسبة لهم، ولكنهم يمضغون الصبر ويلعقون الأمل .

الفلسطيني اليوم ليس فقط رمزاً للمقاومة وحب الوطن والدفاع عن أرضه، بل هو شاهد حي على جريمة إنسانية كبرى يتواطأ فيها العالم في الصمت والخذلان، في غزة لم تعد المعاناة من المجاعة مجرد مشاهد عابرة في نشرات الأخبار، بل واقع يومي مرير ينهش اللحم ويكسر العظم ويمتحن الكرامة، وما أصعب الأمومة والأبوة في غزة !، حيث ترى أطفالاً يصارعون للبقاء بلا غذاء، وجرحى بلا علاج ومرضى بلا دواء، وأمهات يتقاسمن لقمة واحدة بين أطفالهن، وآباء قصم ظهورهم عجزهم عن توفير حليب لأصغر أبنائهم، ويافعون وشُبّان يهوون أرضاً بعد أن أنهكهم الجوع وأذاب أجسادهم، يَحمِلُونَ جنائزهم ثم بعد لحظات يُحمَلُون هُم جنائز.

بينما نهدر أطنان الطعام في حفلات ومناسبات وولائم تُقام أحياناً لمجرد التباهي، أهل غزة يبحثون عن القليل منه في مكب النفايات ولا يجدون حتى الفتات، والأمهات في غزة يخبزن خبزاً من الأعشاب ويغلين الماء ليخدعن جوع أطفالهن، وهناك من يخلط دقيقاً فاسداً لعله يطيل أعمار من يُحب، يا للعار نأكل حتى التخمة بينما يقضي أهل غزة نَحبهم جوعاً، نلتهم الطعام ونحن نغلق أعيننا ونطفئ الشاشات؛ حتى لا نرى مشاهد الصراع والموت من أجل كسرة خبز، ونسد أذاننا؛ كي لا نسمع صوت صراخ الجياع هناك، ونُطبِق أفواهنا عن الحق ولا نفتحها إلا للطعام، إن الفجوة بين ما نعيشه وما يعانيه إخواننا في غزة ليست مجرد رقم، بل فضيحة أخلاقية وإنسانية وعار على جبين العروبة والاسلام.

كم مرة جلسنا على موائدنا العامرة دون أن يخطر في بالنا أن هناك من لم يتذوق طعاماً منذ أيام؟، كم مرة رمينا بقايا الطعام في القمامة دون شعور بالذنب؟، إن التخمة التي نعيشها اليوم ليست في بطوننا فحسب بل في وعينا أيضاً، فقد أفرطنا في الاستهلاك وأفرغنا عقولنا وقلوبنا من التفكير والاحساس، ليست المشكلة أننا نأكل بل أننا نأكل بلا وعي وبلا امتنان، وبلا إحساس بالنعم التي نحن غارقون فيها وبلا إحساس بالآخر، نحن لسنا مطالبين بأن نجوّع أنفسنا تضامناً مع أهل غزة، ولكن يجب أن نتذكر الجائعين الصامدين ونحن نأكل دون منع، وأن نعيد التفكير في سلوكنا الاستهلاكي، وأن نربي أبناءنا على الامتنان لا الترف، واستشعار معاناة الغير وحرمانهم من أبسط النعم، وأن نشكر الله على نعمه بمواقف فعلية، كالدعاء لإخواننا في غزة والتبرع لهم ولو باليسير.

هل تجرّد العالم من إنسانيته واعتاد تداول مقاطع الجوع والموت في غزة كمشاهد عابرة، أم أن الترف الذي نعيشه قد أعمى بصيرتنا وقتل فينا الإحساس بالذنب وتأنيب الضمير؟ لماذا كل هذا الخذلان والتنصُّل من المسؤولية وكأن ما يحدث في غزة لا يعنينا؟، لماذا يصمت القادرون على التغيير وهم يدركون تماماً أن صمتهم وسكونهم شكلاً من أشكال المشاركة في الجريمة؟، ربما لن نجد إجابات مقنعة لكل الأسئلة التي تدور في أذهاننا، ولكن رغم كل شيء يجب أن نتذكر أنه ليس المهم أن نتحدث عن الإنسانية في المؤتمرات، بل أن تتحدث أفعالنا عن انسانيتنا، ويجب ألا ننسى أن التخمة الحقيقية ليست في امتلاء المعدة فقط، ولكن أيضاً في القلوب التي تمتلئ بالقسوة وتخلو من الرحمة.

تعليق واحد

اترك رداً على مزنة إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى