
من الأخلاق إلى هندسة القوّة..
الدكتور/ عدنان بن أحمد الأنصاري
محلل سياسي ، ودبلوماسي ، وسفير سابق
إن كان العجز خطيئة، فدواؤه هندسةٌ هادئة لقوةٍ رشيدة :
1. حماية المجال والملاذ.
2. رفع الكلفة القانونية – السياسية.
3. سرديةٌ عالمية محترفة.
4. حوكمة قرار مشتركة (سرعة وحسم).
5. شراكة متوازنة مع القوى الكبرى (مكاسب متبادلة لا تبعية).
بهذه الخريطة؛ لا تصبح الدوحة – أو أي عاصمة عربية – ساحةً لرسائل الآخرين؛ بل عقدةَ توازنٍ تُحسِن ضبط الإيقاع.
إن أردنا ردعًا حقيقيًا؛ فالمعادلة بسيطة وصعبة معًا :
بياناتٌ تُترجَم إلى إجراءات، وشراكاتٌ تُترجَم إلى التزامات، وقدراتٌ تُترجَم إلى جاهزية. عندها فقط؛ لن تنفع “حملات ما بين الحروب” في فرض إيقاعها علينا، بل سنفرض نحن حدود الملعب وقواعده.
أين مكمن “الهوان العربي” ؟!..
ليس في نقص الموارد؛ بل في نقص هندسة القوة :
• غياب نظرية ردع عربية مشتركة (ردع بالإنكار + ردع بالعقاب) بآليات تشغيلية، لا شعارات.
• تشظّي سلسلة القيادة بين الدول، وضعف غرف عمليات مشتركة تعمل 7/24 للفضاء السيبراني والحرب الإعلامية والدفاع الجوي.
• اقتصاد أمني غير مُنسّق : مشتريات دفاعية ضخمة بلا قابلية تشغيل موحّدة أو معايير اتصال مشتركة.
• قانونية ضعيفة الأنياب : قضايا متفرقة بلا منصة تقاضي عربية محترفة تراكم السوابق وتُحدِث أثراً رادعًا.
• إعلام بلا استراتيجية : يلهث خلف الواقعة ولا يصنع بيئة السرد المسبقة.
الأسئلة الحساسة في الحالة القطرية..
• هل يُسهم الاستهداف في جرّ قطر لصدام مباشر ؟
المقصود غالبًا رسالة ردعية ضد الملاذات لا فتح جبهة؛ لذا يبقى الرد الأفضل : رفع كلفة الاستهداف مستقبلًا عبر دمج قدرات الإنكار (تقنية/سيبرانية/دفاع جوي) مع ردّ دبلوماسي-قانوني محسوب لا يمنح المُعتدي مبرر التصعيد.
• هل تَكفي المظلّة الأمريكية ؟ تَحدُّ من الحروب الكبرى، لكنها لا تُفلح وحدها في منع “اللدغات” الدقيقة؛ المطلوب مسطرة عربية واضحة للخطوط الحُمْر وآلية مشتركة لإظهار الكلفة.
ما جرى في الدوحة ليس حادثًا عابراً في “حرب الظلال”، بل رسالة مركّبة :
اختبارٌ لحدود الردع العربي، وتعريةٌ لفجوةٍ قديمة بين خطابٍ مرتفع السقف وأدوات قوّةٍ متداعية.
في منطق الاستراتيجية الواقعية، ليست المسألة “دولة كبيرة وصِغر أخرى”؛ بل : من يملك منظومة قرار متماسكة، وأدوات ضغط متعددة، وقدرةً على تحويل المعلومات والاستخبارات إلى فعلٍ دقيقٍ ذي كلفةٍ منخفضة ومردودٍ سياسيٍ مرتفع.
هنا تبرز إسرائيل كلاعبٍ يُحسن إدارة “حملات ما بين الحروب” (Campaign Between Wars)؛ قضمٌ منتظم للأهداف خارج حدودها؛ لحرمان خصومها من الملاذات الآمنة، وخلق بيئةٍ إقليميةٍ تعتاد الضربات فلا تُفاجأ بها ولا تردعها.
لماذا تجرؤ إسرائيل رغم صِغرها ؟..
1. عقيدة “الاستباق والإنكار” : تَعتبر أن ترك خصومها يتمركزون خارج فلسطين تهديدٌ مؤجَّل؛ فتضرب “وقائيًا” لإجهاض البنى قبل تعاظمها.
2. تفوق استخباراتي – عملياتي :
شبكة اندماج عميقة بين الأقمار الصناعية، الإشارات، المصادر البشرية، والذكاء الاصطناعي التكتيكي؛ أي “دورة قتل” قصيرة جدًا.
3. غطاء سياسي دولي :
هامش مناورة متولد من علاقةٍ خاصة بواشنطن، وقدرة على توظيف سردية “الدفاع الذاتي” قانونيًا وإعلاميًا.
4. تشرذم عربي ومركز قرار موزّع :
غياب مؤسسة ردع عربية مشتركة يبدد الكلفة المتوقعة على المُعتدي.
5. بيئة إقليمية متصدّعة :
تناقضات المحاور، وازدواجية العلاقات (التطبيع/المواجهة)، تمنحها “فراغًا استراتيجيًا” تُناور داخله.
خصوصية المشهد القطري ..
وجود قاعدة أمريكية كبرى في قطر يخلق ردعًا عامّاً ضد الحروب الواسعة؛ لكنه لا يمنع ضربات موضعية منخفضة البصمة تُنفَّذ بوسائط دقيقة وزمن تعرُّضٍ قصير .. لماذا ؟ لأن قواعد الشراكة الأمنية لا تعني تلقائيًا أن واشنطن ستعتبر كل ضربةٍ على هدفٍ غير أمريكي عدوانًا عليها. لذلك يبقى الرهان على ترتيبات ردع خليجية – عربية مكمّلة؛ لا على “تأجير الردع” من الخارج.
هل تنفع الآن سياسة الشجب والتنديد ؟!..
خلاصة موقف من “الشجب” ومن “بيانات الجامعة”..
• الشجب مطلوب كطبقة تأطير سياسي وقانوني؛ لكنه عاجز منفرداً.
• النجاعة تُقاس لا بنبرة النص؛ بل بعدد التحقيقات المفتوحة، وعدد الأفراد المُلاحَظين قانونيًا، ومستوى تكامل الدفاعات، وزمن الاستجابة العملياتية.
• الفائدة المحدودة..
الشجب يُنتج كلفةً معنويةً على المعتدي ويخلق سجلًا سياسيّاً وقانونيّاً؛ لكنه لا يغيّر سلوك الخصم إذا لم تُرفَق به أدواتُ كلفةٍ ملموسة (عسكرية/اقتصادية/قانونية/تكنولوجية/سمعية وبصريّة).
• أثره الحقيقي..
يتضاعف فقط حين يشكّل غطاءً تعبويّاً لقرارات ردعية : استدعاء سفراء، تجميد مسارات، إطلاق تحقيقات أممية، تفعيل اختصاص القضاء الدولي، حرمان من تقنيات أو مسارات تمويل.
• خطورته إذا عُزل..
يصبح “روتيناً ضاراً” يُطَبِّع الجمهور على العجز.