بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

رهان نتنياهو على مواقع التواصل

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب مهتم بالشأن السياسي الإقليمي

 

«الأسلحة تتغير بمرور الوقت، ولا يمكننا القتال بالسيف فقط. علينا أن ننخرط بكلِّ العتاد. وتيك توك هو السلاح الأخطر الآن، وهو رقم واحد» هكذا صرّح بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي يوم الجمعة قبل الماضية، وهو يلتقي بعض المؤثرين الأمريكيين على وسائل التواصل الاجتماعي في مقر القنصلية الإسرائيلية بنيويورك، وتحدّث معهم عن أهمية ما وصفه بـ«سلاح» منصتي «تيك توك» و«إكس» في تعزيز الدعم الإعلامي لإسرائيل. 

أعاد رئيس وزراء إسرائيل إلى أذهاننا ما كنّا نسمعه ونحن في مقتبل العمر من أنّ «الكلمة أحيانًا أقوى من الرصاص»، ولم نكن نستوعب ذلك حينها، لكن جاء نتنياهو – الذي يملك ترسانة ضخمة من الأسلحة – ليؤكد تلك الحقيقة في لقائه ذاك بعد فشله الذريع في كلمته في الأمم المتحدة التي شهدت انسحابًا جماعيًّا من وفود الدول بمجرد دخوله القاعة. 

يعي الرجل تمامًا أدوات المعركة الحديثة، ولا يفوِّت أيّ فرصة إلا ويستغلها لدعم موقف بلاده في حربها على غزة، ولم يفتْه أن يشير إلى تعاونه مع إيلون ماسك مالك منصة «إكس» الذي وصفه بـ«الصديق لا العدو»، وأنّ «التعاون معه مهم في هذه المعركة». 

كان الهدف من اللقاء تجنيد أولئك المؤثرين لصالح الرواية الإسرائيلية؛ لإعادة تشكيل صورة إسرائيل أمام الرأي العام العالمي، خاصة بعد تزايد العزلة الدولية التي تواجهها؛ لأنّ هؤلاء يملكون متابعين كثيرين يثقون بهم أكثر من السياسيين، ويستطيعون تسويق الرسائل السياسية عبر محتوى ترفيهي وسهل الهضم ويحمل رسائل مبطنة، وهي ميزة نجح فيها الإسرائيليون عبر التاريخ. 

أتصور أنّ ما قاله نتنياهو هو إعلان عن معركة جديدة تُخاض على مستوى الوعي عن طريق المحتوى الإعلامي بالسيطرة على شاشات الهواتف والحواسيب بعد أن فشلت إسرائيل في تغيير المفاهيم العربية عن طريق صحافتها وقنواتها التي توصف زورًا وبهتانًا أنها عربية، وعن طريق كتّابها وصحفيِّيها العرب الذين افتقدوا المهنية، وعن طريق حاخاماتها المسلمين؛ لذا فإنّ نتنياهو لم يكن يبالغ في قوة السلاح الجديد.

فالمعارك بقدر ما تُخاض في الميدان تُخاض على المنصات الاجتماعية أيضًا التي تحولت إلى ساحات اشتباك بين الروايات أمام متلقين عالميين دون الخضوع للرقابة التقليدية؛ فالمحتوى الذي يُنشر عليها قادر على تشكيل الرأي العام، وتغيير المزاج الدولي، وحتى التأثير في قرارات سياسية إذا استُغلت الاستغلال الأمثل. 

لكن هل كان اختياره لمنصة تيك توك كـ«السلاح رقم واحد» اختيارًا عشوائيًا؟ لا أعتقد ذلك؛ فهذه المنصة تملك خصائص تجعلها أكثر خطورة من غيرها؛ لانتشارها الواسع بين الشباب الذين يشكلون الرأي العام المستقبلي، وهم أساسًا جيلٌ بصريّ تستهويه المقاطع السريعة والمؤثرة أكثر من المطولات من المقاطع والمقالات، وكذلك سهولة صناعة المحتوى الذي يمكن لأيِّ شخص أن ينتجه خلال دقائق، وهي عوامل تعطي مثل المحتوى الفلسطيني فرصة للانتشار والظهور الواسع. ولا يمكن إنكار أنّ التيك توك لعب دورًا أساسيًّا في تغيير الفكرة السلبية عن الفلسطينيين بعد طوفان الأقصى، فخرجت مظاهرات حاشدة في مختلف أنحاء العالم مؤيدة للقضية الفلسطينية، ومنددة بالمجازر التي ترتكبها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين ما وضع إسرائيل في موقع دفاعي غير معتاد على الساحة العالمية لدرجة أن يخصص نتنياهو وقتًا للقاء ناشطي هذه المنصات؛ لأنه يعلم تمامًا أنّ المحتوى الفلسطيني حقق حضورًا ضخمًا، ومن ذلك أنّ هاشتاج «حرِّروا فلسطين» نال المليارات من المشاهدات حول العالم مع أكثر من مليون مقطع فيديو تصور قصصًا وصورًا ومواقف مباشرة من الميدان. كما حصد هاشتاج «مع فلسطين» ملايين من المشاهدات خلال شهر واحد فقط. وتكشف هذه الأرقام عن انتصار رقمي واضح للرواية الفلسطينية؛ حيث وصفت بعض التقارير هذا الزخم بأنه «أول انتصار رقمي شامل للفلسطينيين على تيك توك». 

ولم يكن ذلك كلّ شيء؛ فقد نشر موقع «نيويورك بوست» في شهر أغسطس الماضي دراسة تؤكد أنّ أكثر من 60% من الجيل الجديد في الولايات المتحدة يعبّرون عن دعمهم لحماس ضد إسرائيل فيما أظهرت دراسة لمركز «بيو» للأبحاث الأميركي أنّ الشباب الأمريكيين تحت سن الثلاثين يميلون أكثر للتعاطف مع الشعب الفلسطيني. 

الحقيقة أنّ إسرائيل تملك تفوقًا عسكريًّا واضحًا على الدول العربية مجتمعة من حيث العلم والتكنولوجيا والتسليح والدعم الدولي. ومع ذلك لم تركن إلى هذا التفوق، ولم تعتبره كافيًا لحسم المعركة؛ لذلك تعاملت مع مواقع التواصل كجزء أساسي من استراتيجيتها، وهذا في ظنّي المتواضع يُحسب لها. وهذا ليس جديدًا عليها؛ فهي من الأساس تملك أدوات تتحكم بها على وسائل الإعلام المعروفة أو التقليدية، ولكن تصريح نتنياهو يكشف عن قلق حقيقي من فقدان السيطرة على الرواية. فالإعلام التقليدي لم يعد وحده من يصنع الرأي، وبإمكان المواطن العادي أن يصبح صحفيًّا ومنافسًا شرسًا لتلك الوسائل عبر منصات التواصل التي تكشف ما كان يُخفى سابقًا من انتهاكات، وتمنح صوتًا لمن لا صوت لهم. 

يعي نتنياهو جيدًا أنّ المعركة الإعلامية أصبحت أكثر تعقيدًا؛ فلا يكفي أن تمتك القنوات الفضائية أو الصحف الكبرى، بل يجب أن تكون حاضرًا في كلِّ المساحات الرقمية المتاحة، وتنافس المحتوى الشعبي الذي قد يُنتج من هاتف بسيط في مخيم لاجئين، فيجوب العالم ويؤثر في الناس. وقد أصبح متاحًا لكلّ فرد أن يكون إعلاميًّا، وأن يكون له منبره الخاص، وكم شاهدنا ناشطين في مواقع التواصل يفوق عدد متابعيهم القنوات والمحطات والصحف الرسمية ما يدلّ على ضرورة الاستفادة منهم -كما فعل نتنياهو-. 

إذا كان رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي قد التقى المؤثرين الأمريكيين على وسائل التواصل فليس معنى ذلك أنّ هذا هو الاستغلال الأول لهذه الوسائل؛ فحسب الملفات المسجلة لدى وزارة العدل الأمريكية فإنّ الحكومة الإسرائيلية مولت حملة مؤثرين تحمل اسم «مشروع إستير» عبر شركة «بريدجز بارتنرز»، وتُبيِّن تلك الملفات أنّ أجر المؤثّر الواحد يصل إلى حوالي 7.000 دولار للمنشور الواحد. 

وأنا أتابع ذلك اللقاء نتنياهو دار فكري وطاف في الصفحات العربية في منصة «أكس». لا شك أنّ هناك حسابات مفيدة، ولكن أغلب ما هو موجود خطابات الكراهية والانقسامات المذهبية، خاصةً في أوقات التوتر السياسي أو الديني ما يخلق بيئة سامة، ويؤثر على التعايش السلمي.

كما أنّ هناك حسابات أغلبها وهمية تؤجج الخلافات بين المسلمين، وتثير النعرات بين المواطنين لدرجة أن يصل الأمر إلى القلق والاكتئاب بسبب متابعة هذه المواقع؛ لأنّ التعرض المستمر للمحتوى السلبي أو المقارنات الاجتماعية يخلق شعورًا بالإحباط، ولكن أسوأ ما ظهر في هذه المنصات هو كمية الشماتة في أهل غزة، وفي استشهاد قادة حماس وقادة حزب الله، وفي العدوان على إيران وقطر. ولم أتصور يومًا أني سأعيش لأرى مسلمين يشمتون في موت مسلمين، وآخرين يقفون مع العدو ضد أشقائهم في الدين والعروبة والنسب. 

من يقرأ كمية الشماتة تلك يخرج بانطباع واحد هو أنّ جماعة نتنياهو نجحوا في تدجين هؤلاء، وكأنهم هم الذين يديرون هذه الحسابات. والآن يبدو أنّ نتنياهو بحاجة إلى دعم المؤثرين الأمريكيين؛ ليكسب الجمهور العالمي. أما في الوطن العربي فهو مطمئن كلَّ الاطمئنان؛ فله نجاحات كثيرة تُسجّل له، وأظن أنه الآن تجاوز فكرة كسب الرأي العام العربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى