بعـد قـرار المـجـلـس !!..

السـفـيـر/ معـصـوم مـرزوق
مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق
بعـد قـرار المـجـلـس !!..
في مساء يوم ٢٢ أكتوبر ١٩٧٣ ، كنت على رأس وحدة الصاعقة قد رجعنا من إغارة في الشلّوفة على تجمع لدبابات العدو في الثغرة ، وتم تكليفي مباشرة بنصب كمين عند تقاطع المدق ١٢ مع المدق المؤدي إلى قيادة الجيش الثالث ، التقيت قائد كتيبة إشارة الجيش الذي همس لي بفرحة مكتومة أن مجلس الأمن أصدر قراراً بوقف إطلاق النار ، وأن الحرب انتهت.
اقترب رقيب الفصيلة رضوان من حفرتي ، يسألني عن حقيقة ما تردد في المذياع عن قرار وقف النار.
كان صوت طلقات النصف بوصة من دبابات العدو التي تمرح في الظلام لا تزال تسمع ، قلت لرضوان أن يعود لموقعه ، وألا يتم تخفيف إجراءات الطوارئ.
لا زلت أتذكر فرحة عينيه بانتهاء الحرب ، وغضبه من ردّي الجاف.
في ظهر اليوم التالي كنا نخوض أكبر وأهم معركة مع وحدتي وهي المعركة التي استشهد فيها رضوان.
لقد ظللنا نقاتل ، حتى بعد ترك موقع الكمين على طريق مصر السويس وعلى حدود السويس وطريق الأدبية ، واستشهد عدد كبير ، وكانت ليلة ٢٣ / ٢٤ أكتوبر لا تنسى ، وأعتبرها تاريخ ميلاد ثانٍ لي.
قاتلنا في أحضان جبل عتاقة ، وقمت بجمع بعض الشاردين من قوات أخرى ، ورغم مرارة الثغرة .. انتصرنا.
قال لي قائد كتيبة إشارة الجيش الثالث في الظلام الدامس تحت جبل عتاقة : “لقد شهدت النكسة ، ويبدو أنها تتكرر” ؛ أجبته بألم وحماس : “لو وقف كل مقاتل وحارب في ١٩٦٧ لما حدثت النكسة ، سنقف يا أفندم هنا ونقاتل حتى نموت” ؛ احتضنني باكياً ، وأنا أطلب منه أن يكون قائد القوات الشاردة التي جمعتها وقمت بتوزيعها بشكل نسق قتالي.
في المساء اشتدت غارات العدو بعد أن تمكن من تحييد قواعد الصواريخ ، اشتبكنا مع مدرعة ١١٣ كانت تصوب كشافها نحو جبل عتاقة بغرض جمع أسرى ، تمكن محمد عبد الفتاح من إصابتها بطلقة ار بي جي.
تحولت المنطقة التي وُجِدْنا فيها إلى جحيم بينما كان رتل مدرع ضخم يزحف في اتجاه الأدبية.
رحم الله رجالي.
ورغم العمليات التي شاركت فيها منذ ٦ أكتوبر ، فإن خسائر وحدتي الأكبر كانت في اليومين اللذين يفترض أنهما بعد قرار الأمم المتحدة بوقف القتال ، وكانت إصابة ساقي اليسرى بشظية أيضاً ، رغم أن كل الطلقات والقذائف أخطأتني طوال أيام الحرب.
في الفجر على طريق مصر السويس ومعي من تبقى على قيد الحياة.
كانت هناك سيارات نقل ضخمة وسيارات إسعاف تطير على الطريق حاملة جرحي وجثث في اتجاه الخلف.
رفض قائد النقل الزميل الوقوف لأن سيارته مكتظة بالجرحى، وكنت أريد نقل الجرحى من جنودي ؛ قمت بتوجيه البندقية إليه مهدداً بجدّية ؛ فوقف ، ودهش عندما رفضت أن يحملني مع الجرحى رغم نزيف ساقي الغزير.
بعد مرور سنين ، وأثناء خدمتي في الخارجية وفي مدريد / إسبانيا ، كنت مدعوّاً للعشاء في منزل زميلة في الخارجية وكانت متزوجة حديثاً.
شعرت منذ اللحظة الأولى أنني قابلته من قبل ، وكذلك شعر هو وبدأنا نسترجع أيام الدراسة وغيرها ، حتى قال لزوجته فجأة : “إنه هو الذي رويت لك عنه ، وكان سيقتلني”.
كان هو ضابط الاحتياط الذي كان يقود بنفسه سيارة النقل على طريق السويس ينقل الجرحى والجثث ؛ نهضنا متعانقين بين دهشة ضيوف زميلتي العزيزة من الإسبان.
وجلسنا نتذكر..
لقد فارق الحياة أخيراً ، ولكنني كلما تحدثت مع زميلتي ، نتذكر السويس ، وتلك الليلة في مدريد.
رحم الله أحمد ناصر.
بقي أن أضيف أن هذا البطل ، كان ينقل الجرحى والجثث تحت القصف الشديد للعدو ، وكان يقوم بهذه الرحلة الخطيرة ذهاباً وإياباً متعرضاً لموت مؤكد ، ولم يكن مكلفاً بكل هذه الرحلات ، رحمه الله انقذ أرواحاً كثيرة ، ورغم أنه لم يكن مقاتلاً ، لكنه أدّى ما يزيد عن بطولات أي مقاتل.
وطوال السنين الماضية أحتفل بيوم ٢٣ أكتوبر بوصفه عيد ميلاد ثانٍ لي ، ويكون مناسبة أتذكر فيها ما حدث وما يحدث وما أتمنى أن يحدث.













