بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

دخـتـر شـال سـمـك..

سامي عادل البدري

طـبيـب نفـسي – العـراق

 

دخـتـر شـال سـمـك..

 

يقول الله تبارك وتعالى : ”وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً“ النحل : ١٤.

تصل إشعارات عديدة لهاتفك المحمول؛ تستيقظ صباح يوم الجمعة صباحاً متثائباً لتجد أحدها : ”حسب إحدى الدراسات الحديثة، ليس هناك فعالية لحبوب دهن السمك (الأوميجا ٣) في الحماية ضد الإصابة بالاكتئاب“.

إن وراء تلك الدراسة التي وصلت لهاتفك وأنت نائم في يوم عطلتك الأسبوعية، والتي لا يتعدى خبرها بضع كلمات، قصة طويلة؛ بدأت تلك الدراسة منذ عام (٢٠١١) واستمرت ست سنين، وشملت أكثر من (١٨ ألف) مشارك في عينتها استمروا جميعا في تناول حبوب دهن السمك، وكذلك فيتامين (دي)، إلى سنة (٢٠١٧)، وشارك في البحث أطباء القلب والشرايين وأطباء الأورام، هذا بالإضافة لأطباء النفس، وكانت مهمة أطباء النفس هو دراسة أثر ذلك في منع حدوث الاكتئاب، ليتأكدوا أخيراً أن ليس لها دور لا لدهن السمك، ولا لفيتامين (دي)، في الحماية من الإصابة بالاكتئاب.

كنت قد وَعَدْتَ مسبقاً عائلتك بشراء السمك صباح الجمعة من أجل غداء دسم؛ تقول لنفسك وأنت تنهض متثاقلاً من الفراش : بأنه حتى لو كانت حبوب دهن السمك لا تقي من الاكتئاب، فإن السمك يبقى لذيذاً وله فوائد عديدة، وتُعزى إليه الصحة الجيدة للشعوب التي تعتمده أساسياً في غذائها مثل الشعب الياباني؛ الذي يتمتع بواحد من أعلى معدلات الأعمار المتوقعة في العالم.

يحكى أن كاتباً غربياً ذهب في زيارة إلى اليابان فاستضافه شخص على مأدبة طعام، وأخبره بأنه سيخصه وحده من بين بقية الضيوف بتقديم طبق مميز في طعمه اللذيذ، وهو سمك (شمس المحيط)، لكنه أضاف بأن هذه السمكة من الأسماك السامة، لذلك يجب أن يُحَضِّر الطبق رئيس طباخين يكون ملماً بأسرار طهيها بحيث يزيل السم منها.

فأتت الأطباق، والكل ينظر لطبق الضيف الغربي الذي صار يأكل بحذر ووجل لقمات صغيرة يدخلها في فمه يلوكها ببطء شديد، وبعد زوال الرهبة صار يتلذذ بذلك الطعم، ليصرح بعد انتهائه من التهامها، بأنها أطيب وجبة أكلها في حياته.

لكن المفارقة تكمن في أن الطبق الموعود، ولسبب ما، كان قد قدم لشخص كان يجلس بجانب الضيف، ولم يكن ما أكله الضيف سوى سمكة عادية مثل الجميع، وربما كان الشخص الذي أكل السمكة الموعودة يزدرد ما يأكل بسرعة غير شاعر بأي تلذذ.

إن ما حصل لذلك الضيف مع السمكة هو أنه أعطى لعملية تذوق الطعام انتباهاً استثنائياً، فصار يتلذذ بالطعام؛ يمكننا جميعاً أن نولي أي تجربة تمر بنا انتباهاً من نوع خاص، ويسمّى ذلك في علم النفس بـ(اليقظة العقلية Mind fullness) .. لقد انتبه علماء النفس مؤخراً لأهمية اليقظة العقلية في علاج القلق والاكتئاب، وصاروا يستسقون مصادرهم حول هذا الأمر من ثقافة الشرق التي تعطي الكثير من الأهمية للعواطف والمشاعر والأحاسيس.

تواجهك الشمس في الطريق إلى سوق السمك، تتعرض لأشعتها؛ لأشعة الشمس فوائد عديدة منها توليد (فيتامين د) في أجسادنا؛ تتبادر إلى ذهنك تلك الدراسة التي وصلك الإشعار عنها صباح هذا اليوم فتتساءل : هل يمكن القول بأن حبوب (الفيتامين د) تمثل اختزالاً لأشعة الشمس ؟ أو مثلاً أن حبوب دهن السمك هي اختزال للسمكة ؟

الشيء الأكيد هو أن الإنسان أعمق من أن نختزله في مادة بلا روح وبلا معنى.

هل تتذكرون كيف عجز الأطباء عن علاج (شمعة) التي فقدت قدرتها على النطق في مسرحية (دختر شال سمك) ؟ ليأتي أخيراً (فاهم) صياد السمك وزوجته اللعوب (جواهر)، لِيَفُكّا عقدة لسانها ويجعلونها تنطق؛ فما الشيء الذي كان لديهما وغير متوفر لدى الأطباء ؟.

صحيح أن (فاهم) هذا كان قد عمل سابقاً كعامل نظافة في مستشفى ابن سينا للأمراض النفسية، فهل تعلم من الأطباء هناك ؟

نسمعه يصرح متفاخراً منذ بداية المسرحية؛ بأنه كان يتعلم من المرضى أنفسهم!.

لقد نجح كل من (فاهم) وزوجته (جواهر) بحل عقدة (شمعة) لأنهما فهماها، وأعطيا لمعاناتها معنى، فوضعوا على حروف سكوتها النقط والحركات، ففتحت فمها أخيراً وتكلمت، بل حتى صارت تغنّي!.

لقد أخطأ الكثير من أطباء النفس في العصر الحديث حين أرادوا أن يختزلوا النفس الإنسانية إلى تفاعلات كيمياوية، وبالغوا في قدرتهم على التحكم بتلك التفاعلات بواسطة الأدوية. في مقابل ذلك كانت هناك أصواتاً خافتة، لكنها ما لبثت تعلو يوماً بعد يوم، لأطباء نفس ينادون بأهمية العمق الروحي للإنسان، وبأهمية المعنى والحكمة. ويمكن عد حركة (اليقظة العقلية Mind fullness)، التي بدأت تقوى بشكل ملحوظ منذ بداية القرن الواحد والعشرين، أحد الأمثلة الحية لذلك.

والحقيقة يجب أن لا ننكر دور الأدوية في إنقاذ حياة المريض أحياناً وفي إنهاء المعاناة النفسية، لكن القصد كان هو عدم الإكتفاء بإعطاء الدواء واختزال كل العملية العلاجية بذلك.

كانت شمس الظهيرة قوية، وغداء يوم الجمعة لذيذاً، والنفس تسكن مطمئنة، منتبهة على النعمة التي بين يديها؛ فلا شك أن الانتباه على النعمة، وحمد الله على كرمه، والتفكر في بديع خلقه، هو أحد أهم أسباب السعادة بكل تأكيد.

مصدر الدراسة الطبية المذكورة:

Okereke, O.I., et al. (2021) Effect of Long-term Supplementation with Marine Omega-3 Fatty Acids vs Placebo on Risk of Depression or Clinically Relevant Depressive Symptoms and on Change in Mood Scores. JAMA. doi.org/10.1001/jama.2021.21187.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى