أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

رواية وادي الرمال .. الحلقة 34..

حـمــد الـنـاصــري

كـاتـب و قـاص

 

رواية وادي الرمال .. الحلقة 34..

 

مدّ “سالم وليد” نظره مَدّة طويلة في عين وليد وأخذ يتأمّل حديثه ويُفكر في مَعلوماته الواسعة ويُدقق النظر في وجهه، ثم قال:

ـ وعلى حسب عِلْمي بأنّ هناك كتاب عنوانه “فتح الاسْرار المكينة” وهذا الكتاب مجهول المؤلف، حيث لم يُذكر اسم المؤلف ولا مكان انتمائه.

والكتاب أشار إلى حادثة أسْرار رحلة الاستكشاف العظيمة التي قام بها ثلّة من الرجال الذين أوتوا من المعرفة ولم يُؤتَ أحد مِثْلهم، فوجدوا أنّ القريتين مُتجذّرتين في عُمق الوادي الكبير، وفي عُمقهما واديان مُتجاوران ولصيقان ببعضهما يَصبّ كل منهما في الآخر.

واعْتُبر من الحدث المُهيب ـ وكما يقال أيضاً ـ أنّ اسم القريتين، جاء من قَبِيل تجاور القريتين والتصاقهما، فسُمّيتا جمعاً بـ ” قرية الوادي”!.

قال رجل بدا عليه الصلاح والرُشد :

ـ أنا والسيّد وليد مُتجاوران في المكان ومُتقاربان في الانساب، ولا شكّ إذْ كان امتداد القريتين ـ كما يُذكَر إلى الوادي العميق، كحال الحَبْل السِّري بين المرأة وجَنِينها، يَربطهما ببعضهما، ويُغذّيهما بمكانتهِ وعُمْقه ويُقوّيهما برسوخه وثباته.

سكت قليلاً ثم أردف وهو ينظر إلى المجتمعين:

ـ يا مَعشر رجال الوادي، لا تختلفوا كثيراً في ملك البحار، ولا تَخلقوا حكايات وأخباراً سيئة عن رجل عظيم، عُرف عنه الشِدة والقسوة في مواقف تُلزمه إلى حد كبير، أنْ يكون مُتمسّكاً بشدّته.

فالقصص والحكايات إمّا أن تكون كاذبة وإمّا تكون فيها شيء من الحقيقة، ومن صحِة القول أنْ يُنقل منها ، ما هو مُوثّقاً ، فقد يشوب الحكاية غموضاً وليست بالضرورة أنْ تكون حكايتها حقيقية.

فمثلاً في اسطورة الملك نقرأ ، أنّ خبراً انتشر مفادهُ موت أمين قصر الملك في مُجتمع وادي الرمال، والحكاية انتشرت كما تنتشر النار في الهشيم وتفتقت شرارتها إلى حدٍّ خطير .. أمين القصر مات مَسموماً.

وازدادت الاقاويل انتشاراً إلى الحدّ الاخطر وتعاقبت حكايتها الجسيمة حول موت أمين القصر وعدم حضور الملك جنازة أمين القصر.؛ بينما قواعد القصر تمنع حضور الملك جنازة أمين القصر.

وحكاية أخرى جانبية انتشرتْ بأسلوب مُختلف ، انشغل بها الناس وانصرفوا عن مواجهة واقعهم ، ومالوا حيث مالَ الشك والريب، إظْهاراً لوعي زائف ، وبدا الناس يُصدقون الحكايات العارية ، حكايات التقت مع بعضها من غير ميعاد ، وكان الانتشار مُضطراً أن يخرج عن قول الصدق وعن أمانة الكلمة حتى لو كان بحراسة مُشددة ، قصص مُربكة لا تمتّ إلى الملك ولا إلى زوجهِ بصلة.

وسِيْقَت حكاية عميقة بأنّ زوجة الملك مقهورة ، فجعلتْ وصَيفةً لها في القصر.؛ حكاية مُرعبة ثقيلة على القصر.؛ إنها قصص الثراء ، وإنْ اخْتُلِف في حقيقتها أو لم تكن واردة في قصصها وحكايتها الظالمة؛ إنها فِتن مُرعبة وأقاويل زائفة كقطع الليل المُخيف.

وغيرها كثير جداً ، فهناك ما نُسِب عن كتاب ” الأسْرار “بأنه ليس لـ ملك البحار.؛ فأنا لا اعتقد، أنّ ذلك الكتاب المجهول، والذي لم يُكْشِف عن مُؤلفه ولو بإشارة أو تلميح، ليُعرف مُؤلفه، رغم أنّ الكتاب ثمين.

ولا أستطيع الجزم بأنّ كتاب “الاسرار” مجهول المؤلّف ، أو يُشير إلى غير الملك ، فما أراهُ بأنه لا يُشير إلى غيره من خارج القصر ، لا من قريب ولا من بعيد، بدليل أنّ كتاب ” الاسرار ” دار حول القرية القديمة التي هي أم التراث العتيق، وذُكِرت القرية القديمة في الكتاب اكثر من مرة.

وقد لا يُخطئ القائل، بأنّ كتاب ” الاسرار” مُؤلفه هو الملك أو من المُقربين للقصر .. طالما أنّ الكتاب تحدّث عن القريتين القديمة والعتيقة ، وذكر مَملكة “مَجن” والاسم مُشتق من الملك “مَعْن” ولذا ، فالمؤلف هو الملك.

قال رجل بهيّ الوجه، ذا لحية كثة، من القرية القديمة وتوطّن في قرية الوادي واستقرّ بها:

ـ لعلّك تُشير إلى الكاهنة وجون ابنة كاهن قرية مَجن.؛ نقول ، ربما الاحداث تُشير إلى ذلك.. لكن للكاهنة حكاية أخرى ، سَبع سِنين مرّت لكهانة إبْنة الملك مَعْن، لمَعبد مَجن ، لم نَحصد من خلالها شيئاً غير أنّها تسَمّت باسم السيدة وجون ، اسمٌ اشتقّ من اسم أمها “ماجنا “.

فقال رجل غاضب مُعقباً:

ـ صدقت، سَبْع سِنين انْقضت ليستْ بهيّنة.؟ سنين جرتْ كما تجري السّفن في البَحر العميق. قل ما الذي اسْتفدناهُ منها أو حتى من أبيها ” مَعْن” كاهن القرية؟

همس رجل آخر:

ـ ذكر لنا الآباء سيرة جدّها وأبيها الجافة في القرية، وكُل من ينتسب إلى عائلة السدّاح لا خير فيه ، وأكثر الناس ماتوا جوعاً أو شقوا به.

زدْ على ذلك، أنّ المَعبد يَسْتقي مداخيله مِمّا تُجمع من أموال وتبرّعات الافراد والهِبات التي يتركها البعض وكذلك الوصايا في ميراث أغنياء القرية.؟ ولم تُعرف تلك الاموال والمداخيل ، هل هي حق للقرية أم هيَ حق للكاهن؟ ثم ما علاقة الثمار والمحاصيل والإنتاج والأثمان بإدارة المعبد؟

قال الرجل الذي قبله مُؤيداً :

ـ صدقت .. والسؤال ، لماذا حاصر قومه وجوّعهم؟ ألا يُعتبر ذلك استغلال غير أخلاقي بطريقة بشعة؟

قال رجل غاضب وهو يُحرك عمامته على رأسه:

ـ أقول لكم ، كما قال غيري ، عائلة السداح لا خير فيها.؛ وكان الملك يستعمل الرجال كعبيد لشخصه وليس للمعبد.؟

قام رجل طويل القامة:

ـ اسمحوا لي أن أقول الحقيقة، أنّ الذي كان يُدير حياة الناس في القرية وشؤونهم العامة هو السيّد ساعد وليس أبوها أو جدّها.؛

فالسيد “ساعد” هو الذي ورثَ سيادة المال أباً عن جد، ولعائلته تاريخ طويل للمال وجبايته والتعامل به ، ويعود إرثه الكبير إلى جده من أمه “مسيعيد” الذي عُرف بـ “المعوشر”؛ وألْصِقت هذه الكُنية بـ ساعد وأصبح يُعرف بـ المعوشر ساعد.

وكانت أمه، مُهتمة بترسيخ اسم أبيها “مسيعيد” وإلْصاقه على إبْنها ساعد، وكانت دوماً تقول لإبْنها وتُشجعه وتفتخر به أمام العائلة والحضور ، ساعد شبيه بجده “مسيعيد”.

كان أبوهُ يَشتغل بتجارة المال وتبادلات البضائع ومُقايضة أصنافها بأصناف أخرى مُماثلة في القيمة ويتعامل في جبايتها، وكانت أمهُ تُناديه بـ المعوشر إلى أنْ ورث ساعد المعوشرية.

قال رجل قوي البُنية ضخم الجثة، جاهراً بصوت خشن:

ـ هذا الكلام به اختلاف كبير ونختلف معكم ، فـ ساعد، يَنتسب لأبيه وليس لأمّه.؛ وما قامت به ” المعوشرية شُروق” يتصادم مع تاريخ عائلة ساعد بل هو خديعة لتاريخ القرية ورجال الوادي، فإنْ كانت هناك ثمّة مَعُوشري يتلاعب بأموال الناس فهم عائلتها؛ فعائلة أمه شروق عرُفت بالاشتغال بالتجارة بين قرى الوادي.؛

قال رجل خمسيني:

ـ نعم صدقت في قولك. ولكني مع الحقيقة، فالحقيقة بَسْطة وتمكين وليس تجاوزاً لحدودها.!

كان لـ شُروق ، إبْنٌ نجيباً تعتمد عليه ، وهو المعوشري ساعد في إدارة قداسة المعبد؟.

ولا غرابة في ذلك فأمه شُروق قُدّيسة، تَزرع الأمل في النفوس وتَطمئن الروح بالوجود، وتُشرق إلى رَبّها، فتزداد أَمَلاً كُلّما انْبَجَستْ رُوحها دِفْئاً بصلاة القداسة.؛ وقبل أنْ يكون ابْنها ساعد معوشري كان أبوها معروفاً بالمعوشرية.؛

ولن يزيد أحدكم على قولي شيئاً ، فالمرأة قوية ذات شكيمة وعزم ، تحتفظ بنضارتها ونعومتها في مقام يُسهل عليها العمل بجمال مُتقن ونضارة مُلفتة.. وجاء ولدها ساعد مِثْلها ، نضراً جميلاً وذو عزم وإرادة ومقام كبير في القرية.

مشاعر النهار تستلهم من الشروق انتصاراً جديداً من قوة الفجر.

يـتـبـع 35..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى