أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

هـل أنـت بخـيـر ؟؟..

ياسمين عبدالمحسن إبراهيم

صانعة محتوى ، ومدربة في مجال اكتشاف وتنمية الذات

هـل أنـت بخـيـر ؟؟..

 

نعم أنا بخير ولله الحمد، هذا كان جوابي على سؤال أبي : يا بني هل أنت بخير؟.
رغم أنني لم أكن بخير، والأمور لم تكن على ما يرام، أردت أن أصرخ باكيا لأخبره أنني لست بخير، وأن قلب ابنه ممزقاً كأشلاء ظبي افترسته قطعان من الضباع بعد أن قضى عليه قطيع من الأسود.

أردت حينها أن تفترش دموعي أحضانه دون أن أنطق ببنت شفة، أردت أن أخبره كم حاجتي لسماع صوت أنفاسه حولي حتى يهدأ روعي وأخلد إلى نوم عميق، أردت أن أخبره أنني استيقظ كل يوم مرعوباً من شيء لا أعلمه، وأن دقات قلبي تعلو على صوت الصباح، أردت أن أخبر أبي أنني متهالك كعجوز متخفي في جسد شاب.

كل هذا تلخص في “نعم أنا بخير يا أبي الحبيب”.
لقد كرر السؤال عدة مرات، لم يصدق عباراتي، كان صوته خائفاً، كأنه سمع صوتي المحبوس بداخلي، ضحكت واتجهت إلى المزاح فلن يقوى قلبه على معرفة ما يشعر به فلذة كبده والبكر من أبنائه، ربما أتمكن من التظاهر بقوة ولكن ماذا أفعل في نبرات صوتي التي تنهار حين تسمع صوت أبي، لقد بلغت من العمر عتيّا ومازال قلبي صبيّاً لا يطمئن إلا في وجود أبي.

هذه كانت مداخلة أحد الحضور في إحدى جلسات الدعم النفسي بأحد المراكز النفسية.

أرى أن مثل هذه الجلسات تعد متنفساً كبيراً للقلوب، وملجأً آمناً وصحياً للعقول، فهناك أشخاص لا تعرف لمن تذهب حين يضيق بها الأفق، وهذه الجلسات تجعلك ترى العالم من زاوية مختلفة، تلامس أوجاع أشخاص لا تعرفهم، تشاركهم تفاصيل مهمة لهم، غاية ما يبغونه هو أن يتمكنوا من مشاركة هذا الحِمْلَ الذي بداخلهم مع أشخاص غير ذويهم، وذلك لأنهم يخافون على الأهل من أن يمسهم الحزن أو أن يلامسهم الضيق.

ربما تبدو تلك المداخلة عادية، فإن لم يكن جميعنا فالأغلبية يدعون أنهم بخير بينما هم عكس ذلك، ولكن هذا الشاب عندما دخل إلى القاعة، كان مبتسماً، وبدأ بالسلام للجميع وأخذ يمزح مع هذا ويتعرف على ذلك، حتى جعل الجميع يفكر لماذا الإنسان يحمل هذا الكم من الإيجابية أن يحضر لهذا المكان، حتى ظن الكثير أنه قادم من أجل تجربة أمر جديد والتعرف على الأشخاص ليس إلّا.

كم من الثبات والقوة، ابتسامة عريضة تجبرك على التبسم، روح لطيفة، خفيف الظل، مثقف، مرتب، لا يمكنك أن تشك ولو لحظة أنه يعاني من نصب أو تعب؛ ربما تعلمك بشكل عملي تلك الجلسات ألّا تحكم على الآخرين من مظهرهم نهائياً.

هنا كعادتي بدأت أفكر وأحلل الأمر، من أين له كل هذا الثبات، لماذا قرر الآن أن يشارك أحدهم هذا الألم؟، لماذا لا يمكننا إخبار آبائنا وأمهاتنا والأقرباء منا بحقيقة ما نشعر بهم؟، هل هو الخوف من صدمتهم، أو الخوف من تقبل شعورهم بالخيبة؟، أم ماذا؟.
وبالرغم من أنه كان هناك مداخلات تبدو أشد حزناً، ولكن مداخلة هذا الشاب أصابت الجميع بالصمت الشديد، لم يتمكن أحد من طرح سؤال ليستوضح أي شئ كبقية المداخلات، كأن كلماته أوضح من ضوء النهار لكل الحضور، حتى الطبيب النفسي اكتفى بتنهيدة، وكأنه يشاركه أساً ما.
نظر الشاب للجميع مُمَرِّراً يده بين خصلات شعره كأنه يحاول أن يجمع ما تبقى من رباطة جأشه، وإذ انهمرت دمعة رغماً عنه، ولثقلها أحدثت صوتا عندما لمست الأرض، وكأن زجاجاً ارتطم بصخرة صماء، التفت الجميع إليه، لم يحاول أن يهرب بدموعه بعيداً، ولكنه ابتسم ابتسامة حزينة، وقال : كل ما أردته من هذه الحياة أن أحقق أهدافي، ومنها أجعل أبي فخوراً بي، أدري أنه يفتخر بي دوماً، ولكن أنا أيضا أدري أن لدي الكثير لأقدمه لهذا العالم، لطالما رافقني هذا الشعور منذ نعومة أظفاري، أنني طاقة وبداخلي خير كبير، لم تلفتني الدنيا بمغرياتها، دوماً أشعر بأنه من الخزي أن أموت دون أن يذكرني التاريخ بالخير، قد يضحك عليَّ أحدكم لتواضع حالي وعلو أحلامي، ولكنني تحملت الكثير، و سأتحمل حتى أصل أو يأخذ الله وديعته.

تنهد ثم قال : الحياة ليست صعبة، ولكننا نحن من يصعبها على أنفسنا وعلى بعضنا البعض.
شيء بداخلي يخبرني أنكم لستم على ما يرام، ولا بأس من ذلك، فالدنيا هكذا؛ يوم سعيد ويوم شاق، وهذه من نعم الله علينا، ولكن المحزن أننا لا يمكننا مشاركة بعض أحمالنا الثقيلة مع أحبائنا؛ نحن نقسى على أصحاب الشخصية القوية الذين لا يبوحون بأحزانهم، ولا يشتكون كما يفعل البعض؛
فالرجل الذي يتزوج امرأة قوية يهملها ظناً منه أنها يمكنها فعل كل شي.

الأب الذي يملك طفلاً يُؤْثِر على نفسه يهمله ظنّاً منه أنه لا يريد ويرضى بالقليل.

المدير في العمل الذي لديه موظف مخلص ونشيط يحمل عليه أكثر من طاقته دون شكر؛ ظنّاً منه أنه فَرْض عليه، ولأنه يدرك أن هذا الموظف لن يَرُدَّه.
وهكذا قياساً على كل أنماط العلاقات في الحياة.

ماذا لو تعاملنا مع الأشخاص الذين يمتازون بالقوة والثبات والقيادة بالقليل من الرحمة والإنسانية، من المؤكد أن إنتاجيتهم ستزيد في كل المجالات الحياتية والعملية وغيرها.

واختتم كلامه قائلاً : آسف إذا تسببت في ضيق لأحد، رد عليه المعالج النفسي شكرا لك لأنك شاركتنا هذا الأمر.
هنا جاء صوت من آخر القاعة قائلاً : متى سنتمكن من إخبار من يسألنا عن أحوالنا؛ أننا لسنا بخير؛ دون خوف أو قلق، فأحيانا غاية ما نحتاجه أن يطمئننا أحدهم بأن تلك الأيام ستمر، وأن الحياة ستزهو لنا من جديد، ربما لا نريد النصح ولا نريد التوبيخ فقط نريد قلباً محباً يسمع بحب، ويحفظ السر والعهد.
رد المعالج : ليس الجميع مهتم بأن يعرف عنك، ربما هو سؤال اعتيادي، وإن كان لابد عليك أن تجد شخصاً واعياً تخبره بما تمر به بين الحين والآخر.

وهنا أسألك أيها القارئ العزيز :
هل أنت بخير ؟..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى