بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

“حارة الرمل العريقة بعبري… دروس في السلوك الراقي”

الكاتب أ. عصام بن محمود الرئيسي
مدرب ومؤلف سلسلة كتاب مختارات من البروتوكول والإتيكيت

في عمق ولاية عبري الواعدة، وتحديدًا في حارة الرمل العريقة، وُلدت الحكايات، ونشأت الأخلاق، وتهذّبت النفوس على مائدة التعاون والبساطة. كانت الحارة مسرحًا حيًّا لقيمٍ إنسانية أصيلة، شكّلت وعينا ووجداننا، وأرست فينا معاني الحب والاحترام، والتراحم، والإيثار. هذه الحارة العريقة، كانت مسرحًا لطفولتي البريئة، حيث عشت أجمل لحظات حياتي بين جدرانها الطينية وأزقتها الضيقة وأصدقاء أوفياء مازلت متواصلا معهم حتى اليوم. تلك الحارة العتيقة التي لم تكن مجرد بيوت من طين وحجارة، بل كانت حضنًا دافئًا يحتضن القيم، ومسرحًا يوميًا تُؤدى فيه أجمل عروض الأخلاق والتعاون والمروءة.

لم نكن نعرف مصطلحات “البروتوكول” و”السلوك الراقي”، كانت السلوكيات اليومية لأهالي الحارة بروتوكولًا غير مكتوب، إلا أنه كان سَمْتًا محليًّا مُستقرًّا في الضمائر، ونُمارسه بالفطرة. من خلال احترام الصغير للكبير، ومبادرة الجار إلى خدمة جاره، والتبسم الذي لا ينقطع حتى في لحظات الشدة.، وقد تجلى أيضا في أبسط تفاصيل الحياة: إلقاء التحية، تبادل الأطباق، مشاركة الأفراح والأحزان، والوقوف مع الجار قبل القريب. كانت الحياة تدبّ في الحارة بخُطى رتيبة ولكنها عميقة المعنى. في كل زاوية، كان هناك سلوك رفيع يتناقل كما يُتناقل الماء من دلو إلى آخر دون أن يُهدر.

وبعد أن تغيّرت أنماط العيش، صارت هذه السلوكيات الرفيعة تُدرَّس وتُدرَّب عليها داخل قاعات التدريب؛ لما لها من أهمية في تعزيز الذوق العام، والمهارات الاجتماعية، وبناء بيئات عمل راقية، وأصبح اليوم ذلك السلوك الراقي نموذجًا يُحتذى في برامج البروتوكول والإتيكيت والسلوك الراقي. وهذا يؤكد أن القيم النبيلة، وإن كانت قديمة في منشئها، فإنها حديثة في أثرها، وعالمية في رسالتها.

موقع فريد وإطلالة ساحرة تتميز حارة الرمل بموقعها الفريد، حيث تطل على واحات النخيل الوارفة وضواحي عبري الجميلة وافلاجها النابضة والتي كانت تسمى بعض من هذه الأماكن (بالمسادي والصوافي) وهي مواجهة مباشرة على حارة الرمل. هذا الموقع الاستراتيجي منحها أهمية كبيرة، وجعلها مركزًا للحياة الاجتماعية والاقتصادية في الماضي.

أمهاتنا، في مشهد يومي لا يُنسى
وكانت أمهاتنا، في مشهد يومي لا يُنسى، ينزلن ويصعدن الجبل بخطى ثابتة وبخفة وعزيمة، يحملن على رؤوسهن (الصفاري) وهي – آنية لحمل الماء مصنوعة من النحاس – المملوءة بماء فلج المفجور (والجحلة) على اليد الأخرى وهي – آنية لتبريد ماء الشرب مصنوعة من الفخار – والتي كانت تلك الافلاج تسقي حارة الرمل وتنعش تفاصيلها. لم يكن التعب عذرًا لأمهاتنا، ولا الشكوى عادة؛ بل كان البذل فطرة، وخدمة الأسرة شرفًا. كانت تلك الطلعات الصباحية والنهارية الشاقة والمتعبة دروسًا في الصبر، والرضا، والتفاني. كانت الأمهات مدرسة في الاتزان والسلوك النبيل، وقدوة في فن العطاء دون منّة، وفي الكرامة الممزوجة بالبساطة كنَّ صانعات الحياة في صمت، يُشعلن نار الطهي، ويطفئن نيران الخلاف، ويربين أجيالًا على الستر والكرم والحياء.

في حارة الرمل… لم تكن الأبواب تُغلق بإحكام، لأن القلوب كانت مفتوحة. حارة الرمل لم تكن مجرد حي سكني، بل كانت مدرسة مفتوحة تُعلّمنا كيف نكون بشرًا قبل أن نكون سكانًا، وكانت الأخلاق فيها تبدأ من الباب وتصل إلى القلب، دون الحاجة لموعظة أو تعليمات مكتوبة. وفي الصباح يبدأ بتحية خالصة من القلب، وتبادل الصحون والموائد لا يحتاج لمناسبة، بل كان جزءًا من “بروتوكول المحبة”. النساء في الحي يتعاونّ في الأفراح والمناسبات، والرجال يتبادلون القهوة الصباحية من بيت الى آخر والواجبات حتى مع الجار دون تكلّف أو انتظار مقابل. وإن مرض أحد، مرض الجميع معه، وإن فرح، فرحت الحارة بأكملها.
ذكريات لا تُنسى

لا تزال صور الطفولة محفورة في ذاكرتي، حيث كنا نلعب في الأزقة، ونتسابق بين البيوت، وبحبات الرمل التي كانت تتكون أمام الحارة بفعل الرياح وطبيعة المكان حتى ان ارجلنا الصغيرة كانت تغوص فيها ونستمتع بأبسط الأشياء. كانت الحياة بسيطة، ولكنها مليئة بالحب والدفء، وكانت الحارة تحتضننا كأم حنون.

من أبرز السلوكيات التي كانت تُميز أهل الحارة:
•​التبجيل والاحترام لكبار السن، وتقديمهم في المجالس والمناسبات دون تردد.
•​الحياء في الحديث والتصرف، حيث كانت الكلمات تُنتقى بعناية، والتصرفات تُضبط بذوق فطري.
•​روح الجماعة، فترميم بيت أحدهم شأن الجميع، فسل النخيل أو حصاد التمر والليمون وغيره من المنتجات الحمضية كان عملاً تشاركياً قبل أن يكون فرديًا.
•​الصدق في البيع والشراء، حيث الثقة كانت رأس المال، والكلمة كانت عُقدًا لا يُنقض.
•​لقد تربّينا في تلك الحارة على أن الصوت العالي ليس علامة قوة، بل ضعف في الأخلاق. وعلى أن الكرم ليس في كثرة الطعام، بل في حسن التقديم وصدق النية. وكانت بساطة الحياة آنذاك معلمًا رائعًا، يكشف أن الرقي لا يأتي من المظاهر بل من التصرفات والتعامل.

حارة الرمل ليست مجرد مكان، بل هي روح تسكن فينا، وذاكرة لا تُنسى، وجزء لا يتجزأ من هويتنا العمانية الأصيلة. في زمن تسارعت فيه الإيقاعات، وباتت القيم تُختزل في قواعد مكتوبة في كتيبات البروتوكول، تظل تلك الحارة شاهدًا على أن السلوكيات الرفيعة كانت حيّة في حياتنا، تلقّيناها بالفطرة، وعشناها بالتجربة، وتعلّمناها من كبارنا لا من الشاشات.

فطوبى لحارة الرمل، ولكل الحارات العمانية التي حملت عبق الأصالة، ورافقت جيلًا إلى ذروة التحضر بسلوكهم، لا بضجيجهم.
وعلى الخير نلتقي، وبالوفاء نرتقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى