بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

حارة الرمل بولاية عبري (2): “ملامح طبوغرافية وجغرافية وحكايات من سفح الجبل”

الكاتب أ. عصام بن محمود الرئيسي
مؤلف سلسلة كتاب مختارات من البروتوكول والإتيكيت

 

تحدثنا في المقال السابق عزيزي القارئ عن حارة الرمل العريقة بعبري من زاوية القيم والسلوكيات الراقية، تحت عنوان: “حارة الرمل… دروس في السلوك الراقي”، حيث استعرضنا ملامح التآلف الإنساني، وروح التعاون، والحياء المجتمعي الذي ميّز ساكنيها. وأود التأكيد أن ما يرد في هذه السطور من وصف للمشاهد ليس من نسج الخيال، بل من ذاكرةٍ حيّة عاشها الكاتب، ومشاعر صادقة يكتبها القلم بعد أن عاشها القلب. فقد نشأ الكاتب في أزقة تلك الحارة وسفوحها، وشهد الحياة كما كانت تُنسج بين بيوت الطين، ومن خلال مواقف وحكايات لا تنسى.

في هذا المقال، ننتقل من الروح إلى الأرض، ومن الإنسان إلى المكان، لنُطلّ على حارة الرمل من زاوية طبوغرافية وجغرافية، نستكشف من خلالها كيف تشكّلت معالمها، وكيف أثّرت البيئة الطبيعية على حياة الناس وبُنيانهم، وحتى على تفاصيل يومهم.

لقد تربعت حارة الرمل القديمة في ولاية عبري ضمن مشهد طبوغرافي هادئ وفريد، بين الجبل والرمل.. هوية تتشكّل ويُجسّد انسجام الإنسان مع الطبيعة في أبهى صوره. فعندما تتأمل الصور والمقاطع المصوّرة عزيزي القارئ للحارة، نكتشف أن موقعها لم يكن اختيارًا عشوائيًّا، بل استجابة ذكية لضرورات العيش، والتكيف مع عناصر البيئة المحيطة.

 لقد كانت حارة الرمل، بموقعها الفريد على السفوح المتاخمة للجبال، وامتدادها نحو أحضانه وبطونه شامخة كشموخ تلك الجبال عبر الزمن، وتلك الكثبان الرملية التي تحتضنها متجمعة في شكلٍ طبيعي عند أقدام الجبل لم تأتي من فراغ، بل تتراكم نتيجة لانحدار الرياح الحاملة للرمال من المناطق المفتوحة باتجاه الحارة، حيث يتوقف اندفاعها عند الحاجز الصخري الطبيعي للجبل.

وقد شكّل هذا التراكم بيئة مريحة للسكن، تمزج بين حماية الجبل ونعومة الرمل وتمثلت نموذجًا للتكيّف الذكي مع تضاريس المكان. فالجغرافيا لم تكن مجرد خلفية، بل كانت عنصرًا فاعلًا في تشكيل الحياة اليومية، بدءًا من توزيع البيوت، مرورًا بالممرات والأزقة، وتمتد كأنها صفحة من كتابٍ قديم، خطّته يد الجغرافيا بمداد الرمل، وصخور الجبال وشكّلته الطبيعة بصبرٍ وعناية.

لم تكن الحارة مجرد تجمع عمراني، بل كانت نسيجًا مكانيًا متكاملًا، ارتبطت فيه البيوت والممرات بملامح الأرض، وتشكّلت ملامح الحياة اليومية وفق ما رسمته الطبيعة من سفوحٍ، وانحداراتٍ، ومناطق منبسطة.

وقد ترك الموقع الجغرافي للحارة أثره الواضح في طبيعة البناء، وتوزيع البيوت، ومجاري السيول، فكما كانت الأرض تحكم شكل البيوت من خلال النسيج العمراني الكثيف والمترابط للحارة، حيث كانت البيوت تُشيّد متلاصقة حفاظًا على التظليل الطبيعي، وتوفير الخصوصية يعكس طبيعة البناء التقليدي العماني. حيث تتكئ الحارة على الجبل، مستفيدة من حماية طبيعية ضد الرياح والغبار في بعض الفصول، وكانت تُنظم أيضًا إيقاع الحياة فيها. وقد تكيّف الإنسان مع هذه البيئة، فبيوتها الطينية بنيت على تدرجات بسيطة في التضاريس، مستفيدة من الميل الطفيف للسفح لتصريف المياه، ومستخدِمة المواد المحلية كالحجارة والطين والصاروج في بعض منها في إنشاء مساكن متينة ومتكيفة مع حرارة الصيف وبرودة الشتاء. حتى طرقاتها الترابية تميل تدريجيًا بانسياب يتماشى مع الطبيعة.

عند هطول الأمطار في حارة الرمل، كانت المياه تنحدر برشاقة من سفوح الجبال القريبة، فتنساب في الشعاب الصغيرة التي تمر بين البيوت المتلاصقة، وكأنها يد الطبيعة الحانية تغسل الطرقات والممرات، وتنعش وجه الحارة بغسل ترابيّ هادئ، يطهرها من غبار الأيام، وكان أهل الحارة ينظرون إلى هذه الامطار كزائر موسمي مبارك، يُعيد للأرض نضارتها، وللجدران رطوبتها، وللقلوب شعورًا بالسكينة والفرح.

وعندما تهب الرياح، تُسمَع أنفاسها بين الأزقة الضيقة كأنها أنين الزمن، وتتحرّك معها العلب الفارغة التي خلفها الأطفال أو المارة، فتُصدر أصواتًا متناثرة تطرق الحوائط والحجارة، كأنها نقرات الزمن على أبواب الذاكرة، أو كأن الحارة تُحدثك بلغة خاصة لا يفهمها إلا من عاشها. وباختصار شديد وبتعبير ادق لقد كانت الرياح، لا تمر مرور العابر امام البيوت، بل تدخلها وكأنها تعزف مقطوعة موسيقية من طراز قديم، تتنقل بين الأزقة الضيقة والسكك المتعرجة، فتصطدم بجدران الطين والأبواب الخشبية، محدثة أصواتًا متباينة في شدّتها ونغماتها وفي ذلك الصوت الرائع تنبعث صور مليئًا بالحياة في كل تفاصيلها.

في بعض الليالي، وعند اقتراب الشتاء تتحول الحارة إلى آلة عزف طبيعية، تعزف الرياح فيها مقاطع متقطعة تارة، ومتصلة تارة أخرى، وكأنها تخبر أهل الحارة أن الشتاء قادم، أو أن الرمال القابعة تحت سفح الجبل تتحرك مختلطة برمال جديدة قادمة من رحلة عابرة لتأخذ موقعها تحت أرجل الجبل، تلك النغمات، لم تكن مصدر خوف، بل كانت صوتًا مألوفًا ورفيقًا قديمًا لسكان الحارة، تأنس له الأرواح، وترويه الحكايات في الليالي الشتوية الطويلة.

وأخيرا فإن الطبوغرافيا ليست مجرد تضاريس، بل إطارٌ تتشكّل فيه ذاكرة المكان. وفي حارة الرمل، نكتشف كيف أن الإنسان العُماني بنى حياته على وِفاق دقيق مع الأرض، لا يعلو فوقها، بل يسكنها ويستأنس بها. وإن توثيق مثل هذه التفاصيل اليوم، يُعدّ جزءًا من حفظ الهوية البيئية والاجتماعية في آنٍ معًا.
وعلى الخير نلتقي، وبالوفاء نرتقي.

تعليق واحد

  1. الجميل في هذا الطرح أنك لم تكتف بالسرد، بل حملت رسالة ضمنية: أن ذاكرة المكان لا يجوز أن تُنسى، وأن التعايش مع البيئة – كما كان يفعل الأجداد – درسٌ يجب أن يُعاد قراءته في زمن الإسمنت والزجاج.

    ولعل ما يدعو للتأمل فعلًا هو ذلك التماهي بين الإنسان والطبيعة؛ بين نغمات الرياح في الأزقة وبين مشاعر السكان في بيوتهم الطينية. إنها لحظة صدق أدبي توثق ما عجزت عنه الكاميرات الحديثة.

    كل الشكر والتقدير على هذا المقال، ونتمنى أن تستمر هذه السلسلة التي تُعيد للمكان مكانته في وجداننا.
    فمن لا ذاكرة له… لا مستقبل له.

اترك رداً على رشاد محمود إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى