بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

‏من الوحي إلى الوعي إلى التمكين

الدكتور/ عدنان بن أحمد الأنصاري

محلّل سياسي ، ودبلوماسي ، وسفير سابق

 

‏لقد منح الله الأمة العربية أعظم كنز الهُدى الكامل.
‏لكن هذا الهُدى ظل في دائرة الشعور لا في دائرة الفعل.
‏وحين يُعاد بناء العقل العربي على أساس الهُدى كمنهجٍ للعلم، وكقوةٍ للتقنية، وكإطارٍ للعدالة
‏عندها فقط تستعيد الأمة موقعها الطبيعي في قيادة التاريخ.
‏{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}
‏أي : للأقوم في الإدارة، والأقوم في العلم، والأقوم في العمران.
‏الهُدى ليس موعظة دينية؛
‏إنه خطة استراتيجية للحياة،
‏ومتى تحولت الآية إلى أداة، تحولت الأمة إلى قوة.
‏يرى القرآن أن الروح المهتدية تصنع الاستخلاف.
‏ويرى القرآن أن الهُدى يولّد القيادة.
‏﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾.
‏إنها معادلة القيادة القرآنية : يقينٌ + صبر = تمكين.
‏حيث تعيش الأمة العربية اليوم أزمة شاملة في الوعي والفعل أزمة لم تبدأ من الخارج بل من الداخل من لحظة انقطاع الصلة بين الهُدى القرآني كمصدرٍ للمعرفة والواقع الإنساني كمجالٍ للتنفيذ.
‏ورغم امتلاك الأمة لأعظم مصدرٍ للهداية في التاريخ الإنساني؛ فإنها تواجه تراجعًا مخيفًا في جميع مؤشرات القوة :
‏العلم، الاقتصاد، الصناعة، التكنولوجيا، والحوكمة.

‏التشخيص الاستراتيجي – بِنْيَة الهوان العربي..

‏1. الخلل الجوهري انقطاع الهُدى عن الفعل :
‏فُصلت القيم عن المؤسسات، والمعاني عن التكنولوجيا، والإيمان عن الإتقان.
‏إنه الانفصال بين الفكرة والحضارة.

‏2. الهوان كمنظومة فكرية :
‏لم يعد الضعف حالة طارئة، بل بِنْيَة متكاملة من الاستسلام، تُدار بوعيٍ مشوَّه يرى في الماضي ملجأً، لا منطلقًا.
‏الإنسان حين يفقد علاقته بالوجود، يفقد قدرته على التقدّم.
‏وهكذا أصبحت الأمة تحفظ النص وتفقد الفعل، تتلو الآيات وتُهمل ما وراءها من مشروعٍ للتفكير والتصميم والإبداع.

‏3. انقلاب الموازين الحضارية :
‏تحولت إقرأ إلى شعارٍ ثقافي لا خطة تعليمية.
‏وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة إلى تبريرٍ للاستيراد لا للتصنيع.
‏وإن الله يحب المتقين إلى وعظٍ عاطفي لا منظومة أخلاق قيادية.

‏الإطار القرآني – أقسام الهُدى كمحاور استراتيجية..

‏يقدّم القرآن منظومة متكاملة للهداية يمكن تحويلها إلى إستراتيجية نهضة شاملة.
‏إذن المطلوب اليوم هو الانتقال من مرحلة الخطاب الإرشادي إلى مرحلة الهُدى التنفيذي والإمامي — أي تحويل الهداية إلى منهجٍ إنتاجيٍ وإداريٍ وصناعيٍ.

‏تحليل الفجوة الاستراتيجية..

‏رغم أن العرب يُنفقون مليارات على التعليم، فإن المحتوى العلمي منفصل عن روح الهُدى.
‏يُدرّس الفيزياء كموضوعٍ تقني لا كمنهجٍ قرآني لاستكشاف سنن الكون.
‏النتيجة : أجيال تعرف ولا تُبدع.

‏4. الفجوة المؤسسية :
‏غياب التكامل بين القيم القرآنية والحوكمة الحديثة.
‏فلا مؤسسات تعكس العدل ولا منظومات تترجم الإحسان ولا سياسات تستوحي الميزان.

‏5. الفجوة الاقتصادية والتكنولوجية :
‏التبعية للغرب ليست اقتصادية فقط بل معرفية.
‏نشتري التقنية دون أن نملك فلسفتها ونستخدم المنتج دون أن نشارك في هندسة فكرته.
‏القرآن يقول : ﴿سَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
‏لكن الأمة لم تسخّر شيئًا؛ بل سُخِّرت.

‏نموذج الهُدى الاستراتيجي– من النص إلى الفعل..

‏إعادة تعريف الإنسان العربي كفاعلٍ حضاري، لا كمستهلكٍ للتاريخ..
‏ينبغي أن يُعاد بناء التعليم والإعلام ليصبحا أداتين لتكوين الإنسان الفاعل، لا المواطن المنفعل.

‏تأسيس مراكز تفكير عربية – إسلامية تعمل على :

‏• تحويل المفاهيم القرآنية (الميزان – الإحسان – الاستخلاف) إلى أدوات تخطيط واستراتيجية.

‏• إدماج الهداية في مناهج العلوم التطبيقية والإدارية.

‏• إطلاق برامج تصنيع ومعرفة عربية تُبنى على الإيمان بالقدرة لا بالعجز.

‏• تحويل موارد الزكاة والوقف إلى صناديق تمويل للبحث العلمي والابتكار.

‏• تشجيع التحالفات الصناعية والعلمية البينية بين الدول العربية على أساس التكامل لا التنافس.

‏التوصيات الاستراتيجية..

‏1. إنشاء مجلس الهُدى الحضاري العربي؛ يضم نخبة من المفكرين، العلماء، والتقنيين العرب لوضع رؤية حضارية موحدة مستمدة من القرآن.

‏2. إطلاق مبادرة الهُدى والتقنية؛ تربط القيم القرآنية بمراكز الابتكار والتصنيع في الخليج والعالم الإسلامي.

‏3. بناء مؤشر الهُدى الحضاري؛ لقياس مدى توافق السياسات الوطنية العربية مع مبادئ الهُدى (العدل، التوازن، الكفاءة، الرحمة).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى