بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

سحر الجديد وخطر الإنبهار

د. محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد

 

 

تُعد ظاهرة التأثر بالجديد من أبرز الظواهر الاجتماعية التي تتجلى في المجتمعات هذه الآونة ، حيث يميل الأفراد إلى الانجذاب لكل ما هو مستحدث من أفكار أو منتجات أو أساليب حياة، دون النظر العميق إلى جدواها أو آثارها البعيدة. هذه النزعة نحو الجديد ليست في حد ذاتها سلبية، إذ أن التجديد والتطور من سمات الحياة، لكن المشكلة تكمن حين يتحول هذا الميل إلى انبهار غير واعٍ، يجر وراءه تقليدًا أعمى وفقدانًا للهوية.

إن الإنسان بطبيعته يبحث عن التغيير ويملّ من الرتابة، لكن المجتمعات المعاصرة باتت تعيش تحت ضغط هائل من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي تروّج لكل جديد باعتباره الأفضل والأكثر قيمة. فترى الناس يتسابقون لاقتناء أحدث الأجهزة، أو اتباع أحدث الموضات، أو تقليد أنماط حياة دخيلة، دون أن يسألوا أنفسهم: هل هذا الجديد يخدم حاجاتنا الحقيقية؟ هل يتوافق مع قيمنا وثقافتنا؟ أم أنه مجرد موجة عابرة سرعان ما تنطفئ؟

خطورة هذه الظاهرة تتجلى في عدة مستويات. أولًا، على المستوى الفردي، قد يؤدي الانبهار بالجديد إلى فقدان القدرة على التمييز بين النافع والضار، فيصبح الفرد أسيرًا لرغبات استهلاكية لا تنتهي، مما يضعف شخصيته ويجعله تابعًا بدل أن يكون فاعلًا. ثانيًا، على المستوى الاجتماعي، يؤدي هذا السلوك إلى انتشار التقليد الأعمى، وتراجع الإبداع المحلي، إذ يكتفي الناس باستيراد الأفكار والمنتجات بدل ابتكار حلول تناسب واقعهم. ثالثًا، على المستوى الثقافي، قد يهدد هذا الانبهار الهوية الوطنية والدينية، حين يتبنى المجتمع أنماطًا غريبة لا تنسجم مع قيمه الأصيلة.

ومن الأمثلة الواضحة على خطورة التأثر بالجديد، انتشار بعض العادات الاستهلاكية التي تُرهق الأسر ماليًا، مثل شراء الهواتف الذكية فور صدور نسخ جديدة، أو تقليد الموضات الغربية دون مراعاة للذوق المحلي أو للجانب الأخلاقي. كذلك، نجد أن بعض الشباب يتأثرون بمحتويات مواقع التواصل التي تروّج لأنماط حياة بعيدة عن واقعهم، فينشأ لديهم شعور بالنقص أو رغبة في محاكاة ما يرونه، مما يخلق فجوة بين ما يملكون وما يتمنون، ويؤدي إلى اضطرابات نفسية واجتماعية.

النقد الاجتماعي لهذه الظاهرة يقتضي أن نميز بين التجديد الإيجابي الذي يضيف قيمة حقيقية، وبين الانبهار السلبي الذي يجر إلى التقليد الأعمى. فالتجديد في التعليم، أو في أساليب العمل، أو في التكنولوجيا الطبية، كلها أمثلة على الجديد النافع الذي ينبغي أن نتبناه. أما الجديد الذي لا يحمل سوى المظاهر الفارغة، فيجب أن نتعامل معه بحذر ونقد، وأن نربي أبناءنا على التفكير النقدي والوعي قبل الانجراف وراءه.

إن الحل يكمن في تعزيز ثقافة الوعي والاختيار الواعي، بحيث يتعلم الفرد أن يسأل نفسه قبل أن يتبنى الجديد: هل يخدم هذا حياتي؟ هل يتوافق مع قيمي؟ هل يضيف لي شيئًا حقيقيًا؟ كما ينبغي للمؤسسات التربوية والإعلامية أن تلعب دورًا في توجيه المجتمع نحو التمييز بين النافع والضار، وأن تزرع في النفوس قيمة الأصالة والاعتزاز بالهوية.

في الختام، يمكن القول إن ظاهرة التأثر بالجديد سلاح ذو حدين: فهي قد تكون مدخلًا للتطور والنهضة إذا أحسنّا التعامل معها بوعي ونقد، لكنها قد تتحول إلى خطر يهدد الفرد والمجتمع إذا تركنا أنفسنا أسرى للانبهار والتقليد الأعمى. ومن هنا تأتي أهمية النقد الاجتماعي لهذه الظاهرة، لتذكيرنا بأن الجديد ليس دائمًا أفضل، وأن قيمنا وهويتنا هي البوصلة التي يجب أن توجه اختياراتنا في عالم سريع التغير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى