بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

الفساد لا يختبئ .. بل يتقن التمثيل

خالـصـة الصـلـتـية

 

في كل مؤسسة، هناك لحظة تختبر صدقها قبل كفاءتها، وضميرها قبل نظامها. لحظة تكشف ما اذا كانت العدالة فيها مبدأ راسخا ام شعارا يتوارى خلف الواجهات. تلك اللحظة تبدأ حين ترتكب المخالفة الاولى، فيلتفت الجميع نحو الادارة بانتظار موقفها. فان بادرت بالتحقيق والمساءلة، تجدد الايمان بالمنظومة واستعاد النظام هيبته. اما اذا ساد الصمت، بدأ الانحدار الهادئ الذي ينسف القيم من الداخل دون ان يحدث صوتا.

المؤسسات لا تنهار دفعة واحدة، بل تتآكل حين يترك الخطأ بلا مراجعة ويكثر التغاضي حتى تتحول الهفوة الى ممارسة. ومع كل مرة يقال فيها ان الامر بسيط او لا يستحق فتح ملف، يكبر الشرخ خطوة، حتى يغدو الخلل عادة يومية تمارس بلا خوف من مساءلة.

والملاحظ اننا في كثير من المواقف نغلب التهاون والتسامح في مواضع تتطلب الحزم، فنغفل ان العدالة لا تنافي الرحمة، بل تكتمل بها. نبرر التجاوز بحجة الطيبة، ونساوي بين الملتزم والمقصر، فنضعف قيمة الانضباط ونفرغ النظام من مهابته. فالخلل لا يبرأ بالصمت، ولا تصلحه المجاملة، وما نحسبه لينا قد يكون في اصله بداية الانحناء امام الخطأ. ومع الوقت، تتسع مساحة الفوضى تحت عباءة النوايا الحسنة، ويتراجع الحق خطوة بعد اخرى امام زحف المجاملة.

الفساد لا يختبئ… بل يتقن التمثيل. يرتدي الاقنعة ويتحدث بلغة النزاهة، ويختبئ خلف الشعارات اللامعة ويتغذى على صمت الادارة حين تغلق الابواب بحجة الظروف او النوايا الطيبة. يبدأ صغيرا، كظل خطأ يمكن تداركه، ثم يكبر حين يرى ان لا احد يجرؤ على تسليط الضوء عليه. ومع كل صمت يتكرر، يتحول التجاوز من حالة استثنائية الى سلوك مألوف، ومن خطأ فردي الى نهج مؤسسي يهدم من الداخل دون ان يحدث ضجيجا.

فالصمت الاداري ليس موقفا محايدا، بل انحياز صامت يغيّب الحق ويربي الخلل. انه يخلق بيئة رمادية يضيع فيها الصواب بين الخوف والمجاملة، وتذوب فيها القيم تحت ثقل المصالح. وعندما يرفع شعار المواربة فوق قيمة العدالة، يتحول القانون الى نص بلا روح، وتغدو الحوكمة اطارا جميلا يجاور خواء عميقا في الداخل.

وفي كل مرحلة يتقدم فيها الخلل خطوة، يزداد العبء على المؤسسة ان تستعيد توازنها. وكلما حاول البعض تبرير الصمت باسم الحكمة او المجاملة، تراجعت قيمة المبدأ لصالح الشعور الزائف بالاستقرار. فالعدالة ليست تفصيلا ثانويا في بنية الادارة، بل هي الجوهر الذي يمنحها معناها وشرعيتها. فاذا سقطت هذه القيمة، سقط معها كل ما يبدو ثابتا من انظمة ولوائح، مهما طال زمن الوقوف عليها.

التحقيق في المخالفات ليس خصومة، بل شجاعة. والمسؤولية ليست عقابا، بل فعل اصلاح يحفظ للعدالة حضورها وللمؤسسة احترامها. فالكيان الذي يواجه خطأه يثبت انه حي وقادر على التعافي، بينما الذي يهرب منه يعلن بداية افوله وان لم يشعر بذلك بعد.

اما المؤسسة التي تخشى الاحراج اكثر مما تخشى الانحراف، فستخسر سمعتها وكرامتها معا. لان السمعة لا تصان باخفاء الاخطاء، بل بتصحيحها، والهيبة لا تكتسب بالصمت، بل بالموقف. وكل فشل مؤسسي كبير بدأ بخطأ صغير صمت عنه بحسن نية، حتى نما واستقر في الوعي كأمر لا يستحق النقاش.

وعندما تغيب العدالة، يتراجع الانتماء، ويبهت الحماس، ويصبح الولاء للاشخاص اقوى من الولاء للمبدأ. يخفت صوت المخلصين، ويعلو صوت المتملقين، وتتحول بيئة العمل الى مسرح يكافأ فيه الممثل البارع اكثر من الفاعل الحقيقي. وحينها لا تحتاج المؤسسة الى عدو خارجي كي تسقط، فخصمها الحقيقي ينمو في داخلها كل يوم بصمت.

ما يحمي المؤسسات ليس خلوها من الاخطاء، بل صدقها في مواجهتها. وما يمنحها الاحترام ليس سلطتها، بل شجاعتها في قول الحقيقة. فالشجاعة الحقيقية لا تقاس بقدرة القائد على الكلام، بل بقدرته على الاصلاح حين يكون الاصلاح مؤلما.

وفي النهاية، لا تقاس قوة المؤسسات بما تحققه من ارقام او انجازات، بل بما تملكه من ضمير حي لا يسمح للخطأ ان يتنكر في هيئة صواب. لان من يختار الصمت امام الخلل يشارك في صنعه، ومن يختار العدل يمنح النظام حياة اطول من اي منصب او نفوذ. فالعدالة حين تغفو تصحو الفوضى، وحين تغلق الابواب على الخطأ، يخرج الفساد من النوافذ متقنا دوره في مشهد كان يمكن الا يحدث لو تحلى احدهم بالشجاعة منذ البداية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى