
حين يصبح المنصب هدية .. تكون المؤسسة ضحية
خالـصـة الـصـلـتـية
لم يكن المنصب الاداري عبر التاريخ مساحة للترضية، ولا ميدانا لرد الجميل، ولا بطاقة صعود تمنح لمجرد إرضاء النفوس. المنصب في جوهره مساحة تكليف لا تشريف، ومسؤولية تقف خلفها قرارات مصيرية تمس سمعة المؤسسة ومستقبلها. لكن حين يتحول هذا المنصب الى هدية، يفقد قيمته، وتفقد المؤسسة ركيزة من أهم ركائز قوتها: العدالة.
المشكلة لا تبدأ عند لحظة التعيين، بل قبلها؛ في ثقافة تتساهل مع المجاملة، وفي منظومة تبرر الاختيار غير المهني، وفي عقلية ترى المنصب وسيلة لإصلاح العلاقات لا إصلاح الاداء. وهنا يبدأ الانهيار الهادئ. فالمؤسسة التي تتساهل في اول طريقها، ستدفع الثمن مضاعفا عند نهايته.
المؤسف ان التعيين بالمجاملة لا يجرّ معه ضعفا فرديا فقط، بل يخلق سلسلة كاملة من التشوهات. المسؤول الذي يدخل المنصب من باب “العلاقة” لا باب “الكفاءة”، سيجد نفسه مشغولا بالحفاظ على صورته لا على مصلحة المؤسسة. ينشغل برد الجميل لا بإدارة العمل، ويتخذ قرارات تحميه اكثر مما تحمي الجهة التي ينتمي اليها. وهكذا يتحول المنصب من مساحة إضافة الى مساحة إثقال.
اما الموظفون من حوله، فهم اول الخاسرين. فحين يرى المجتهد ان جهده لا يكفي ليصل، وحين تكتشف الكفاءات ان الطريق لا يفتح بالتميز بل بالمجاملة، تتراجع الهمم، وتختنق الروح الإبداعية، وتتحول بيئة العمل من مساحة منافسة صحية الى مسرح صامت لخيبات متراكمة. وفي هذا المناخ، لا يمكن لمؤسسة ان تتقدم، مهما كان شعارها رنانا او خطتها جميلة.
والاخطر من ذلك ان التعيين الضعيف ينعكس على كل قرار لاحق. فمن يجلس على الكرسي بلا اهلية يتخذ قرارات بلا رؤية، ويمرر اجراءات بلا فهم، ويوقع على ملفات لا يدرك ابعادها. تتشابك الاخطاء الصغيرة، وتتراكم، ثم تتحول الى ازمة ادارية تكشفها النتائج المتراجعة والخدمات المتدنية وشكاوى الجمهور. وعندها فقط تكتشف المؤسسة انها كانت تسير على ارض هشة منذ البداية.
النهضة الادارية التي ننشدها اليوم، في ظل رؤية عمان 2040، لم تعد تحتمل هذا النوع من الترقيات غير المهنية. فمبادئ الحكم الرشيد واضحة: كفاءة، نزاهة، خبرة، مساءلة، وشفافية. ومؤسسة لا تطبق هذه المبادئ على نفسها لن تستطيع تطبيقها على خدماتها ولا على موظفيها. المنصب يجب ان يكون انعكاسا لقيمة حقيقية، لا قرارا نابعا من مجاملة أو رغبة في تطييب خاطر.
كما ان المؤسسات الحديثة لم تعد تقاس بهياكلها فقط، بل بثقافتها. الثقافة التي تجعل الموظف يؤمن ان فرصته عادلة، وان جهده يراه الجميع، وان الطريق الى المنصب لا يمر عبر “من نعرف”، بل عبر “ما نستطيع”. الثقافة التي تبني ثقة داخلية، تمنح المؤسسة قدرة على النمو، وتجعل كل فرد يرى نفسه جزءا من معادلة النجاح لا مجرد رقم فيها.
ومن يتولى منصبا بالمجاملة لا يخدع المؤسسة فقط، بل يخدع نفسه؛ يعيش في ظل قوة ليست له، ويستند الى ثقة لم يبذل ثمنها، ويقف في غرفة صنع القرار وهو غير قادر على تحمل ضوءها. اما من يصل بالكفاءة، فيجلس على الكرسي معتدلا، مطمئنا، لأنه يعرف ان الطريق الذي جاء منه ليس مفروشا بالترضيات، بل بالجد.
الخلل الحقيقي لا يكمن في الشخص الذي تم تعيينه، بل في المنظومة التي سمحت له بالوصول. فالمؤسسة التي تهدي المناصب لمن لا يستحق، تهدي نفسها سلسلة من المشكلات، وتضحي بسمعتها، وتفقد ثقة جمهورها، وتُفقد الكفاءات الرغبة في البقاء.
وعندما تغيب الكفاءة يتوقف النمو، وحين يتوقف النمو ينهار كل ما ظنته المؤسسة صلبا.
وفي النهاية، حين يصبح المنصب هدية .. تكون المؤسسة ضحية، وتكون التنمية مجرد شعار، والتنظيم مجرد ورق، والاستراتيجية مجرد جملة على لوحة. أما البناء الحقيقي، فلا يقوم إلّا على كتف من يستحق، ويعرف، ويستطيع.











