بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

ذهب مع الريح..

ياسمين عبدالمحسن إبراهيم

المدير التنفيذي لشركة رواق الابتكار
مدربة في مجال اكتشاف و تطوير المهارات
مهتمة بمجال تطوير الأعمال

يقول أحدهم: تأتي الرياح بما لم تشتهِ السفن، وفي حقيقة الأمر لم تدري الرياح بالسفن يوما، فهي فقط تؤدي مهمة كُلفت بها ثم تعود لمساكنها، فإن لم تعلم السفن عندما غادرت مرفأها بأنها قد تواجه ما لا تشتهيه، فقد ظلمت نفسها، ربما كان على ربانها أخبرها بذلك، كان عليه أن يخبرها أن عليها البقاء على اليابسة حتى تأمن ما لا تشتهيه، كان عليه أن يخبرها بأن خوض غمار البحار للمحاربين الأبطال، كان عليه أن يخبرها بأن ركوب البحر ليس مجرد رحلة ممتعة، كان عليها أن تدرك أن ربما يكمن فيما لا تشتهيه الخير الذي ترتجيه.

يحكى أن هناك بحر عظيم، مياهه واسعة، لا حد لها ولا نهاية، تأتيه السفن من كل حدب وصوب، ويتعنى له القاصي قبل الداني لينهل من خيرات أعماقه التي لا يمكن وصف روعتها، كان الجميع يتغنى بحب هذا البحر وبالخير الوفير الذي يحويه، ذاع صيته بأنه بحر كريم يرحب بالجميع، كان البحر فرحا فخورا بهذه الإنجازات، كل يوم يغدق على زواره من خيراته التي وهبه الله إياها ، يقدم لهم النفيس دون تعب منهم، يأتون إليه ليجدوا كل ما هو ثمين في جوف البحر يطفو على سطح مياهه كحسناء تتباهى بحسنها الخلاب، كان سعيدا بهذا العطاء، فلقد خلق ليجود بالخير، ليكون فارقا في نفوس محبيه، ولكنه كان قلق طوال الوقت من تلك الرياح المتقلبة التي تأتي كل يوم بحال، يوم تأتيه بالخير، وألف يوم تأتي بما غير ذلك، مع الوقت بدء البعض يتراجع عن زيارة ذاك البحر، وأخذت الأخبار السيئة تنتشر عن مخاوف الناس منه، وبين ليلة وضحاها وبين واحدة من فجوات الزمن انقلب الحال، من بحر عامر بالسفن والبحارة، إلى مياه مهجورة تطفو خيراتها بلا مريدين، إلا من فئة قليلة من أهل البحر الذين يأتونه حبا دون رغبة في كنوزه.

غلب حزن البحر كرمه، أصبحت أمواجه عاتيه، تضر بمحبيه ظلما، كان يرى أنه فقد الكثير، فلا بأس إن خسر الجميع، غضبه من الهجر أعماه عن حقيقة أصله الكريم، وما ضر البحر إن كان بحرا خيّرا كريما يعطي بغير مقابل، غير أن دوام الحال من المحال، كان ناقما من تلك الرياح التي كان يشعر البحر دوما بأنها متآمرة عليه، كانت هي الغربال، جاءت لتزيح الغيوم عن أمر لم يكن في الحسبان، لم يخطر على بال البحر يوما بأنه سيُهجر رغم كل هذا العطاء، ولم تكن الرياح هي سبب تقلب قلوب العباد، ما حدث وسيحدث هو طبيعة الحال، فمن اعتاد على الأخذ لا تلومنه إذا عاملك بالبَرَس ، كان على البحر أن يَطعم مرار الهجر، ليعيد ترتيب أمواجه، وليخبئ كنوزه لمن يبذل الغالي والثمين بحثا عنها، المارة يكفيهم السلام كرما، أما البحارة الشداد فلهم ما طاب وزان.

كان على البحر أن يدرك بأن الحب الحقيقي لا يصاغ في الأغاني، ولكنه يبرز كنجوم في سماء معتمة بالأفعال. كان على البحر ألا يبحث عن الكم، وألا يبحث عن الأسباب، وألا يبحث عما لم يحط به خبرا.

كان على البحر أن يرى كرم الله في الثلة القليلة المحبة المخلصة، أن يمتن لما يملك من نعم، أن يدرك بأن قيمته في كونه بحر كريم، لا في كونه ذا سفن راسيات كثر.

وهنا يا عزيزي القارئ لا البحر بحر ولا السفن سفن، أنت البحر إن شئت أو السفن، فإن كنت البحر فلا خير في كرم يبذل في غير موضعه، ولتتذكر أنه لا يمكن لأحدهم أن يحب البحر وهو يقف على الشاطئ، يجب أن يغوص في أعماقه، وتضربه أمواجه، ويرى قاعه المظلم، ويعرف كيف يغضب، وبعدها يقرر إما أن يحبه إما لا شيء من ذلك، تبدأ الحياة يا عزيزي عندما ينتهي الحماس.

وإن كنت السفينة فلا تنس الفضل مهما كان، وغادر بالمعروف إن شئت أو ابق بغير ضرار، كن نافعا مباركا أينما صورك الله وأقامك. وإن كنت البحر والسفينة فلا تلومن الرياح، ولتكن الرياح دليلك، مهما كانت قوتها، قد تأخذك بعيدا عن الميناء الآمن ولكنها تقربك أكثر من وجهتك الحقيقية.

وفي الختام..

” ما ذهب مع الريح ليس خسرانا، بل درس يعيد ترتيب الأولويات، ويمنح رؤية أوضح للمستقبل، والمهم أن نتعلم كيف نحيا في لج بحر عصفت فيه الريح، حتى ندرك شواطئنا آمنين”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى