بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

قلب آسيا النابض بالحضارة والتجدد .. أوزبكستان بين الماضي والحاضر

الدكتور محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد

 

عند التقاء الصحارى بالجبال، وعند مفترق دروب القوافل الكبرى، تقوم أوزبكستان كجسر حيّ بين التاريخ والحاضر، بين الأصالة والمستقبل. لا يمكن لمن يقرأ عن سمرقند وبخارى وخيوة أن يمر مرور العابر، فهنا خُطّت على صفحات الرمال أعظم فصول الحضارة الإسلامية، وهنا صُقلت هوية شعوب وسط آسيا عبر قرون من التلاقح الثقافي والديني والسياسي. في سمرقند، حيث تنبض الأرض بأثر البيروني والخوارزمي، لا تزال قباب المدارس القديمة تعانق السماء؛ إنها ليست فقط مدنًا، بل متاحف حية تضم مكتبات مخفية ومساجد تروي تاريخ أمة كانت ذات يوم مركزًا من مراكز العالم في الطب والرياضيات والفلك.

تتردد أصداء المساجد القديمة كـ”بيبي خانوم” و”شاه زندة”، ويتوهج بلاط الأزرق في “الريجستان” كأنّه لازورديُّ الضوء، شاهِدًا على أن أوزبكستان لم تكن هامشًا في دفتر الحضارة، بل مركزًا يخطُّ بمداد العلم والدين والسياسة معًا. في بخارى، مدينة الإمام البخاري، ينبعث عبق السُّنة النبوية وأثر أئمة الحديث والفقه، لتصبح أوزبكستان واحدة من أبرز الحواضر الإسلامية التي حافظت على جذوة العلم وسط عواصف التاريخ.

بل إنّ أهل التصوف ما زالوا يشيرون إلى سمرقند وبخارى كقِبلتين روحيتين، حيث كانت المدارس والمجالس تعجّ بالذاكرين والعاشقين، من خواجَة نقشبند إلى علّامات أهل الذوق. غير أن أوزبكستان اليوم، وقد مضت عقود على استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، لا تقف عند عتبات ماضيها المجيد؛ بل أطلقت مشاريع إصلاحية واسعة في الاقتصاد والقانون والتعليم.

الرئيس شوكت ميرضيائيف قاد تحوّلات جريئة جعلت البلاد تتجه نحو نموذج تنموي متزن، يحترم الخصوصية الثقافية والدينية، ويستثمر في الإنسان، ويعيد فتح الأبواب نحو العالم من خلال التجارة والسياحة والتكنولوجيا.

إنّ أوزبكستان اليوم تسير بخطى ثابتة نحو أهداف التنمية المستدامة 2030، مدعومة بإصلاحات في البنية التحتية والمؤسسات، واستراتيجية فتح الأفق أمام الاستثمار والشراكة الدولية.

ليست أوزبكستان مجرد دولة في وسط آسيا؛ إنها تقف على حافة الشرقين: الشرق العربي الذي غذّاها بروح الإسلام ولغته، والشرق الفارسي-التركي الذي صبغ ثقافتها وأدبها وموسيقاها.

وبين هذا وذاك، أنتجت أوزبكستان شخصية متفردة، تعرف كيف تنحت هويتها بهدوء، بعيدًا عن ضجيج الشعارات، وقريبة من جوهر الإنسان.

من يزور أوزبكستان اليوم لا يذهب إلى أرضٍ منسية، بل إلى وطنٍ يعرف كيف يُعانق ماضيه ليمضي في طريق المستقبل. تلك البلاد التي كانت ذات يوم قلب “طريق الحرير”، تعود اليوم لتكون صلة الوصل بين آسيا والعالم. فيها يلتقي الجمال المعماري بوعي السياسات، ويلتحم التصوف برؤية اقتصادية، وتصبح الرمال التي خطّت أسماء العلماء، منصة لانطلاقة جديدة.

هكذا تبقى أوزبكستان — كما رآها التاريخ — مرآةً لروح آسيا، ومِصباحًا حضاريًا في ليل العالم المضطرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى