بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

رحلة عبر الزمن.. أوزبكستان قلب الطريق العظيم للحرير

الدكتور محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد

 

 

كلما نطقتُ اسم أوزبكستان شعرت أن لساني يلامس خيوط الحرير تلك التي عبرت القارات، لا محمّلة بالبضائع فقط، بل بالحكايات، والكتب، والديانات، والموسيقى، والدموع، والنبوغ. وما كانت أوزبكستان في تلك الرحلة الطويلة مجرد محطة… بل كانت القلب النابض، والروح الهادية لطريق سُمِّي “طريق الحرير”، وسُمِّي به التاريخ بعد أن عطّرته الخطى وحرّرته الأفكار. حيث تبدأ الحكاية في سمرقند، لا تحتاج للزمان كي تُدركه، فالمدينة نفسها تسير بك إليه. كانت لآلاف السنين عقدة الممر التجاري العظيم، تقف كأنها مضيفة ملكية تُرحب بالقوافل القادمة من الصين، وتُودع المسافرين إلى القسطنطينية ودمشق.

يقول المؤرخ فرديناند فون الذي أطلق لأول مرة اسم Silk Road في القرن التاسع عشر، إن “الطريق لم يكن تجاريًا بحتًا، بل كان ساحةً لتبادل الحضارات”، وما من ساحة كانت أكثر خصوبة من سهول سمرقند. ومن لم يُشاهد ميدان ريغستان عند المغيب، حين يصطدم ضوء الشمس بفسيفساء المدارس الثلاث، لم يرَ كيف تُكلم الحجارة التاريخ. أما بخارى، فكانت الميناء البري الذي لا يغفو. مدينة لا تتنفس من فمها فقط، بل من مكتباتها، ومساجدها، وأسواقها، وأصوات علمائها. كانت مركزًا تجاريًا مزدهرًا منذ القرن السادس، ومقرًا لعلماء كبار مثل ابن سينا والإمام البخاري، وموطنًا لصناعة الورق التي تسللت من الصين إلى العالم الإسلامي ومنها إلى أوروبا. إن طريق الحرير الذي عبر أوزبكستان لم يحمل فقط نسيج الصين وثروات الهند، بل حمل بوادر النهضة الإسلامية، وأسس ذلك النسيج بين علوم الشرق وحكمة الغرب.

عندما تطالع الوثائق الصينية القديمة تجدها تُشير إلى أن أول علاقات تجارية مع منطقة سغديانا (الاسم القديم لوسط أوزبكستان) بدأت في القرن الثاني قبل الميلاد، في عهد أسرة هان، وأن التجار السغديين كانوا وسطاء بين الصين والإمبراطوريات الأخرى. لقد لعبت أوزبكستان دورًا ثقافيًا بامتياز، وكانت الجسر الذي عبرته الديانات الثلاث: البوذية، والزرادشتية، ثم الإسلام، إلى جانب المانوية والمسيحية النسطورية.

تُشير الاكتشافات الأثرية في تُرْمِذ وأنديجان وخيوة إلى تعدد الثقافات واللغات التي تعايشت على ضفاف هذا الطريق، بما فيها السغدية، والفارسية، والعربية، والصينية. فقد كانت القوافل التي تعبر أوزبكستان لا تبحث فقط عن الربح، بل كانت تخط سطور التاريخ بأقدام الإبل.فكل ناقة كانت تجر حلمًا. وكل راكب يدوّن ما يرى في الذاكرة، قبل أن يدونه في الكتب.

ويكفي أن تعلم أن ماركو بولو، الرحّالة الفينيسي الشهير، مرَّ عبر وادي فرغانة، وسجّل انبهاره بالصناعات الأوزبكية من قماش ومشغولات يدوية وخزف مطلي كان يُباع بأسعار فلكية في البندقية والقاهرة وقرطبة. فأوزبكستان لم تكن بلدًا يتحدث فقط، بل بلد يهمس… ومن يُحسن الإصغاء، يُدرك أنه أمام حضارة صبورة، ذات نفس طويل، حضارة لم تكن نتاج قوة، بل نتاج عبور.

إن أوزبكستان لا تُزار كبلد عادي بل إنها تُقرأ كقصيدة، وتُحسّ كنبض، وتُطوى في القلب كورقة قديمة لا تبهت.فمن طريق الحرير بدأت حكاية التبادل العظيم، ومنه ستُستعاد فكرة أن الشرق لا يزال قادرًا على أن يكون جسرًا… لا جدارًا. فيا أوزبكستان، يا سيدة القوافل القديمة، ومحراب الرحّالة والعلماء، كم من طريقٍ عبركِ، وكم من روحٍ بقيت فيكِ.

تعليق واحد

اترك رداً على ندي الجهني إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى