بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

قبلة راغب .. فصحى سلوم .. لوحات مها : قنابل تتناغم مع العدوان الصهيوني..

الدكتور/ خالد بن عبد الرحيم الزدجالي

 

 

كلما سقطت قذيفة على أرض عربية؛ تنفجر قنبلة أخرى على الشاشات : قبلة أو فستان أو حلاقة شعر؛ فتختلط أصوات الضحايا مع ضجيج الترند.

لم يعد الإعلام الحديث ناقلًا محايدًا للأحداث؛ بل صار ماكينة ضخمة لإنتاج ترندات تفرض علينا ما نتحدث عنه، ومتى ننسى ما هو أهم.
ففي كل أزمة كبرى، سواء كانت قصفًا أو مجزرة أو حربًا مفتوحة؛ يظهر فجأة ترند يبتلع النقاش العام ويجعل المأساة نفسها تتوارى خلف ضجيج لا ينتهي.

السؤال الذي يطرح : هل هي مجرد مصادفة أن تتزامن هذه الفضائح الصغيرة مع الكوارث الكبرى ؟!!
أم أن هناك أيادٍ خفية تعرف متى تدفع بالضجيج المصنوع إلى الواجهة كي تُخفي ألسنة اللهب ؟!!.

في الثالث عشر من يونيو 2025 قصفت إسرائيل أهدافًا في إيران بصواريخ ومسيرات أنذرت المنطقة بحرب إقليمية وشيكة، ومع أن الحدث شكّل منعطفًا خطيرًا؛ انشغلت المنصات العربية بمشهد راغب علامة وهو يقبّل معجبة على المسرح، ثم جاء قرار منعه من الغناء ليصب الزيت على نار الجدل، فتحوّل النقاش كله إلى سؤال : هل يستحق المنع ؟!
بينما السؤال الحقيقي الذي غاب تمامًا هو : هل نحن على أبواب حرب قد تغيّر وجه المنطقة ؟!
قبلة صغيرة أطفأت وعينا، وأبقت نيران الحرب مشتعلة.

بعدها بثلاثة أشهر، وفي التاسع من سبتمبر 2025، استهدفت غارة إسرائيلية في الدوحة مقرّاً سياسيّاً لحماس وقتلت خمسة بينهم عنصر من الأمن القطري.
ورغم أن الهجوم مثّل سابقةً في تحدّي سيادة دولة خليجية؛
إلا أن العنوان الأول الذي سيطر على النقاش لم يكن “قطر تُقصف”؛ بل “سلوم حداد ينتقد الممثلين المصريين”!!.
تصريح لغوي عابر أشعل حربًا كلامية بين السوريين والمصريين؛ امتلأت معها المنصات بالشتائم والردود!!.
هكذا تحوّل تصريح ثانوي إلى ترند مُدَوٍّ صرف الأنظار عن قنابل حقيقية تسقط على الأرض.

وفي غزة، خلال المجازر المتكررة بين عامي 2024 و2025؛ بينما كان الأطفال يُنتشلون من تحت الأنقاض، والبيوت تنهار فوق ساكنيها؛ سيطر على السوشيال ميديا جدل آخر : الفضيحة الفنية المرتبطة بمها الصغير طليقة النجم أحمد السقا؛ قيل إن لوحاتها مسروقة؛ فالتهمت الأخبار والتحليلات والبرامج، وفي لحظة مفصلية، صارت القصة المزعومة أكثر حضورًا من جثث الضحايا.

هكذا تتحول البديهيات إلى ثانويات والسخافات إلى أولويات، وكأن القصف يحتاج إلى غطاء إعلامي من هذا النوع.

حتى المبادرات التضامنية لم تسلم؛ ففي يونيو 2025 خرجت “قافلة الصمود” من تونس لدعم غزة؛ كان يمكن أن تكون لحظة وحدة نادرة؛ لولا أن بعض الأصوات المنفلتة استُخدمت كذخيرة لإشعال حرب كلامية بين الشعوب، وخصوصًا بين المغاربة والمصريين.
تغريدات عابرة تحوّلت إلى عاصفة، والتضامن إلى انقسام، والقافلة من رمز مقاومة إلى مصدر جدل؛ بدا وكأن الترندات المفخخة أُطلقت لتصيب الداخل العربي بدل مواجهة العدوان.

والنمط نفسه يتكرر على أكثر من جبهة؛ كلما اشتدت الغارات في اليمن، أو قصفت سوريا، أو استهدفت الضاحية في لبنان؛ تطفو فجأة قصةٌ أخرى : فستان مثير في مهرجان الجونة، أو حلاقة شعر شيرين عبدالوهاب، أو مشادة بين نجوم على الهواء!!.
صور الدماء وضجيج الانفجارات يتراجعان أمام الصور اللامعة؛فيخفت صوت الحرب، ويعلو صخب الترند.
الإعلام ينسج ستاراً دخانيّاً من القضايا الثانوية ليحجب النار المشتعلة في الواقع.

وهذه ليست ظاهرة جديدة، بل خطة قديمة تتكرر مع كل حرب. أثناء غزو العراق عام 2003 ثم حرب لبنان 2006؛ ضجّت الشاشات بالبرامج الترفيهية وقصص النجوم أكثر من ضجيج الغارات الجوية.
التاريخ يثبت أنها خطة قديمة أعادت السوشيال ميديا إنتاجها وتوسيع نطاقها.

السر في نجاحها يكمن في طبيعة الجمهور والإعلام معًا؛ فالمواد السطحية قصيرة وسهلة الهضم؛ مشهد أو مقطع فيديو قصير، بينما خبر القصف ثقيل يثير العجز.
الناس يفضلون الجدل حول الأخلاق والملابس لامتلاكهم رأياً شخصيّاً فيها؛ بينما يقفون مشلولين أمام جريمة سياسية لا يملكون أدوات تغييرها.
ثم تأتي المنصات لتدفع بهذه القصص إلى القمة لأنها تجلب المشاهدات؛ فيما تُقصي صور الدم لأنها تخفض الإعلانات وتثير الحرج السياسي.

لكن الأهم أن هذه الترندات لا تُدار بعفوية؛ بل تُطلقها غرف تحكم رقمية تعرف متى تنفجر ؟وأين ؟.
أنظمة عربية تروّجها لتغطية عجزها أو تواطؤها، منصات تجارية تبحث عن الربح، وقوى خارجية تدرك أن انشغال العرب بجدالات صغيرة يحميها من غضب الشعوب.
النتيجة أن الضحية واحدة : الوعي الجمعي.
فبينما يسقط ضحايا في غزة ودول عربية أخرى؛ يجد الرأي العام نفسه غارقًا في مناقشة قبلة أو لوحة أو فستان.

إن ما يبدو فوضى إعلامية ليس في الحقيقة إلا فوضى مُدارة.
ليست المشكلة في الناس بل في المنظومات التي ترفع المقاطع وتدفن الأخبار.
الإعلام اليوم سلاح أخطر؛ يقصف العقول بدل الأجساد، ويزرع معارك وهمية مكان المعارك الحقيقية، ويضخّم الصغائر حتى تطغى على صوت الدم.

من راغب إلى سلوم إلى مها، ومن حادثة إلى تصريح إلى فضيحة؛ يتضح كيف تتناغم الترندات مع العدوان الصهيوني.
ليست هذه مصادفة بل خطة متكررة : إطفاء الغضب ودفن الحقيقة.
في كل مرة يتصدر حدث عابر بينما تُقصف غزة ودول أخرى، علينا أن نتوقف ونسأل : أي دم يريدون لنا أن ننساه الآن ؟!.

إذا كانت الطائرات تقصف أوطاننا، فإن قنابل الشاشات تقصف وعينا… ولا نجاة إلا باليقظة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى