بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

عُمان… حين تنطق الرمالُ بالحضارة

الدكتور محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد

 

في أقصى الجنوب العربي، حيث تتعانق الجبال مع البحر، وتُصافح الرمالُ المدى، تنبض سلطنة عُمان كأنها قصيدةٌ منقوشةٌ على صخرٍ لا يذوب. ليست عُمان مجرد وطنٍ يُرسم على الخريطة، بل هي ذاكرةٌ عربيةٌ تمشي على الأرض، تُحدّثك عن المجد لا بصوتٍ عالٍ، بل بهدوءٍ يشبه الحكمة.

من صلالة إلى صحار، ومن نزوى إلى مسقط، تتوزع الحكايات كأنها مراياٌ تعكسُ وجوهَ العرب في كلّ عصر. هنا، لا تُقرأ الحضارة في الكتب فقط، بل تُشمّ في العطر، وتُسمع في صوت البحر، وتُرى في عيون الناس.
عُمان ليست طارئة على التاريخ، بل هي من أوائل البقاع التي دخلها الإسلام طواعيةً لا قسرًا، حين أرسل النبي محمد ﷺ عمرو بن العاص إلى أهلها، فأسلموا دون حرب، وكتبوا بذلك أول سطرٍ في كتاب التسامح العربي.

في العصر الأموي والعباسي، كانت عُمان بوابةً بحريةً للتجارة والمعرفة، تربط الهند بشرق إفريقيا، وتنقل البخور واللؤلؤ والكتب، وتُصدّر معها روحًا عربيةً لا تُشترى. وفي زمن الدولة النباهية، بزغ نجم نزوى كعاصمةٍ للعلم والفقه، حيث كان العلماء يُدرّسون في المساجد، وتُنسخ الكتب بخط اليد، وتُحفظ في الصدور قبل السطور.

ما يُميز الحضارة العُمانية أنها بحريةٌ بامتياز، لا تنغلق على نفسها، بل تُبحر نحو الآخر. فالعمانيون لم يكونوا تجارًا فقط، بل سفراء ثقافة، حملوا العربية إلى سواحل إفريقيا، وأسّسوا ممالك في زنجبار، وتركوا أثرًا لا يُمحى.

لكنّ هذا المجد لا يُروى فقط بلغة الشعر، بل يحتاج إلى تحليلٍ يُظهر كيف حافظت عُمان على هويتها رغم الاستعمار البرتغالي، وكيف أعادت بناء ذاتها في عهد السلطان قابوس، الذي جعل من النهضة مشروعًا حضاريًا لا دعائيًا. وفقًا لدراسات منشورة في مجلة التاريخ العربي المعاصر، فإن عُمان تُعدّ من الدول القليلة التي جمعت بين الأصالة والانفتاح، دون أن تفقد لغتها أو تراثها، وهو ما يُفسّر استقرارها السياسي والثقافي في محيطٍ مضطرب.

أعلم أنه في مقالاتي يُغيب أحيانًا الإنسان لصالح المكان، لكن في عُمان، لا يُمكن فصل الإنسان عن الجغرافيا. فالعُماني هو الراوي، والباني، والحارس. في ملامحه ترى الحكمة، وفي صمته تسمع التاريخ، وفي كرمه تُدرك أن الحضارة ليست حجارةً فقط، بل سلوكٌ يوميٌّ يُمارَسُ بلا تكلّف.

عُمان ليست سطرًا في كتاب، بل كتابٌ مفتوحٌ على احتمالات الجمال. من أراد أن يفهم الحضارة العربية في صورتها الهادئة، المتزنة، العميقة، فليقرأ عُمان، لا بعينيه فقط، بل بقلبه، وعقله، وتاريخه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى