
الاتفاقيات .. سلاح هادىء يعيد تشكيل الموازين..
الدكتور خالد بن عبدالرحيم الزدجالي
في عالم تمزقه الحروب، تبدو الاتفاقيات أكثر هدوءًا لكنها ليست أقل فاعلية.
منذ توقيع اتفاقية التعاون الدفاعي بين السعودية وباكستان، ارتفعت أصوات تقلل من شأنها، ومنهم الخبير الاستراتيجي العقيد الركن ذو الفقار علي، الذي رأى أن باكستان مرتهنة للتوازنات الغربية؛ لكن القراءة الهادئة تكشف أن هذا التشكيك يفتقر إلى البُعد الاستراتيجي؛ فالاتفاقيات أدوات سياسية وعسكرية واقتصادية قادرة على تغيير الموازين إذا أُحسن استثمارها.
العالم يتغير بسرعة، ومنطقتنا إما أن تكون لاعبًا مؤثرًا أو تبقى ملعبًا لصراعات الآخرين.
هذا المقال يأتي استجابةً لهواجس مثقفين عرب يرون هذه الاتفاقيات بلا أثر عملي؛ فيما يراها آخرون فرصة لإعادة رسم موازين القوى في ظل تحولات دولية متسارعة.
الاتفاقيات خطوة أولى نحو الاستقلال ودروس من التجارب العالمية.
الاتفاقيات ليست نهاية الطريق، بل منصات لبناء الثقة وتعزيز التعاون؛ صحيح أن الخليج يعتمد دفاعيًا على الغرب، لكن الاستقلال يبدأ بخطوات تدريجية؛ عبر تنويع مصادر السلاح، والتدريب، وبناء شراكات جديدة؛ الهند وتركيا وإيران لم تصل إلى ما هي عليه فجأة؛ بل عبر مسارات فرضتها الإرادة السياسية.
إيران رغم الحصار منذ عقود؛ طورت برامج صاروخية تقلق القوى الكبرى؛ فإذا تمكنت وهي محاصرة؛ فكيف بدول غنية بالموارد ؟ المشكلة ليست في الإمكانات بل في غياب الإرادة. الاتحاد الأوروبي بدأ بتعاون محدود في الفحم والصلب، ثم صار من أهم التكتلات العالمية.
منظمة التعاون الإسلامي انطلقت من اجتماع رمزي عام 1969، وتوسعت لتضم أكثر من خمسين دولة.
هذه التجارب تؤكد أن البداية قد تبدو بسيطة؛ لكنها تتحول إلى قوى مؤثرة مع الزمن إذا وُجدت الرؤية.
كسر أوهام الارتهان للغرب والتحالفات الكبرى..
الغرب بارع في صناعة الخوف؛ كل خطوة نحو الشرق تُصوَّر مغامرة؛ لكنَّ دولًا كثيرة أبرمت صفقات سلاح وتكنولوجيا مع روسيا والصين ولم تواجه عزلة.
أميركا وأوروبا تسعيان وراء مصالحهما؛ فإذا رأت جديتنا في بناء مسارات جديدة؛ ستسعى للتقارب بدل التهديد.
السياسة عندها حسابات ربح وخسارة لا مبادئ ثابتة.
التحالف السعودي – الباكستاني بداية لمسار أوسع، وإذا اجتمعت القوى المحورية كتركيا وإيران ومصر والجزائر والعراق على تسوية خلافاتها، فإن معظم مشاكل المنطقة ستجد طريقها إلى الحل؛ عندها يمكن تخيل قوة اقتصادية وعسكرية هائلة مدعومة بالمال الخليجي، قادرة على إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي.
ليس من المبالغة القول إن تحالفًا كهذا قد يغيّر وجه العالم.
فحين تجتمع الكتلة السكانية الكبرى، مع الثروات الطبيعية، والقدرات الصناعية، يمكن صياغة مشروع حضاري متكامل. التاريخ أثبت أن التحالفات الكبرى تكبح أطماع القوى الاستعمارية، فكيف إذا اجتمع عمق حضاري يربط آسيا بإفريقيا مع موارد الطاقة والمال؟
التشرذم والاقتصاد: الخطر الأكبر والقوة الكامنة
المشكلة ليست في ضعف الإمكانات، بل في تشتت الإرادة السياسية. حين تبحث كل دولة عن حماية منفردة من الغرب، فإنها تضعف نفسها وتضعف شقيقاتها. هذه سياسة “فرّق تسد” التي مورست تاريخيًا ضدنا.
إسرائيل لا يتجاوز عدد سكانها تسعة ملايين، بينما العرب 450 مليونًا، والمسلمون أكثر من مليار وثمانمائة مليون. ومع ذلك تفرض شروطها وتزرع الرعب. السبب ليس تفوقها بل انقسامنا. لو توحدت هذه الكتلة، لما استطاعت أي قوة فرض وصايتها.
كما أن بعض الأنظمة والنخب تراهن على حماية خارجية أو مصالح ضيقة، مما يقوّض الثقة الوطنية. التاريخ القريب علّمنا أن الأنظمة التي رهنت قرارها لغيرها انتهت نهاية مشينة، بينما بقيت الأمة وصمودها.
الناتج المحلي للدول العربية يتجاوز 3 تريليونات دولار سنويًا، وللدول الإسلامية نحو 8 تريليونات. هذه الأرقام تكفي لتشكيل قوة تفاوضية كبرى لو وُجدت إرادة التكامل. تفعيل الربط بين الأسواق والخدمات والتكنولوجيا هو ما يمنح أي تحالف صدقية وقدرة حقيقية على التأثير.
الواقعية وبناء البدائل
الواقعية ليست استسلامًا. بل أن نقرأ الواقع بعيون مفتوحة ونراه كما هو، ثم نستخدم الاتفاقيات والتحالفات لتغييره تدريجيًا. الاستقلال لا يولد كاملًا، بل يُبنى خطوة بخطوة. وحين تتحول الاتفاقيات إلى تحالفات راسخة، سيكون للأمة صوت قادر على نصرة القضايا الكبرى، وعلى رأسها فلسطين ولبنان وسوريا.
الخاتمة: نحو فلسطين وأفق جديد
اتفاقية التعاون بين السعودية وباكستان ليست معجزة ولا وهمًا، بل خطوة على طريق طويل يتطلب صبرًا وإرادة. الغرب يراهن على استمرار تشرذمنا، لكن الرد الأقوى ليس في الصراخ أو المغامرات العسكرية، بل في بناء تحالفات تجعل الأمة كتلة متماسكة.
وعندما يكتمل هذا المسار، لن تكون فلسطين مجرد شعار، بل مشروعًا واقعيًا تدعمه قوة سياسية واقتصادية وعسكرية. عندها يتحول التحالف إلى نور في نهاية النفق، وبداية لتحول استراتيجي طال انتظاره.