
بين العاطفة والواقع المر..
الدكتور عدنان بن أحمد الأنصاري
محلّل سياسي ، ودبلوماسي ، وسفير سابق
الاتفاق السعودي – الباكستاني أداةٌ لتحسين الموقع التفاوضي وتكثيف قدرة الردع، لا تذكرة خروجٍ من الاعتمادية البنيوية.
الأمم التي لا تمتلك أدوات قوّتها ستظلّ “تحرس أمن الآخرين بسلاحٍ مستعار”.
الطريق إلى السيادة الدفاعية يمرّ عبر الصناعة، التعليم، وتعدّد مصادر التقنية والتمويل.
احتفلوا بالخطوة كإشارةٍ استراتيجية، لا كبديلٍ عن مشروع الاستقلال الطويل.
وما لم يُستثمر الاتفاقُ بوصفه منصّة بناءٍ ذاتي، فستبقى “العاطفة” أعلى من “الواقع” .. والواقع لا يرحم.
السياسة الخارجية فنُّ ترتيب موازين القوى تحت ضغوط الجغرافيا والوقت، لا ميداناً للنيات الحسنة.
التاريخ سلسلة تبدّلٍ في مراكز الثقل حين تُهمل الأمم شروط القوّة الصلبة.
من هذه الزاوية، يبدو “الاتفاقُ الدفاعي السعودي – الباكستاني” تحوّلاً لافتاً في معيار الأمن الإقليمي، لكنه ليس صكَّ طمأنينةٍ فوريًّا ولا “مظلّةً معجزة”.
فالاتفاق، وإن نصّ على أن الاعتداء على أحد الطرفين اعتداءٌ على كليهما، جاء في لحظة ريبةٍ خليجية من الضمانات الأمريكية بعد هزّاتٍ إقليمية، وأدخَل القدرات الباكستانية ــ نوويةً كانت أم تقليدية ــ في حسابات الردع حول الخليج.
أولاً : ما الذي يغيّره الاتفاق ؟ وما الذي لا يغيّره ؟..
1. إشارة ردعية لا انقلاباً استراتيجياً :
الاتفاق يرفع “سقف الالتباس البنّاء” عبر إيحاءٍ بمظلّة ردعٍ باكستانية لجوارٍ خليجيٍّ مرتبك؛ لكنه لا يفكّ في ليلةٍ واحدة اعتماديةَ المنظومات السعودية على سلاسل الإمداد والبرمجيات والدمج العملياتي الأمريكي (طائرات، صواريخ، قيادة وسيطرة)، وهي اعتمادية موثّقة وممتدّة.
2. النووي .. من التصريح إلى الحساب :
التناول العلني داخل باكستان لفكرة أن “القدرات النووية قد تُتاح للمملكة عند الحاجة” ضاعف الأثر السياسي للاتفاق، لكنه يظلّ في حقل الإشارة الردعية لا ترتيبات نقل تقني مباشر، لما يترتب على ذلك من محاذير انتشار نووي.
3. سياق إقليمي مضطرب :
اللحظة جاءت بعد ضربات إسرائيلية على الدوحة هزّت حسابات الأمن الخليجي، فاندفعَت العواصم للبحث عن “تأمين ردعي” مكمّل للضمان الأمريكي التقليدي.
ثانياً : حدود القدرة و”مفاتيح الإيقاف”..
• الاعتمادية التقنية والسيادية :
ما يزال الدمج العملياتي السعودي ـ الأمريكي يجعل مفاتيح قطع الغيار، التحديثات البرمجية، وربط الأقمار الصناعية عنصراً مُقرِّراً.
هذا لا يُبطل أثر الاتفاق، لكنه يضع سقفاً عملياً لاستقلال قرار الاستخدام في أزماتٍ تمسّ مصالح واشنطن أو الناتو.
• سجلّ الأداء والمرونة :
إخفاقات جزئية سابقة في منظومات الاعتراض، والتحرّكات الأمريكية بسحبِ وإعادة تموضع بطاريات باتريوت، كلّها تذكيرٌ بهشاشة الاتكال الأحادي.
ثالثاً : توازنات متحركة لا “تحالفاتِ خلاص”..
ستسعى واشنطن لاحتواء الاتفاق داخل إطار تكاملي معها لا بديلٍ عنها، فيما تنظر الرياض إليه أداةَ تفاوضٍ لرفع هامش المناورة، وتنظر إسلام آباد إليه رافعةَ نفوذٍ وتمويل.
الهند ستقرأ التطوّر ببراغماتيةٍ “مراقِبة متحفِّظة” حفاظاً على مسارها الاقتصادي مع الخليج.
ردعٌ مركّب ومتعدّد الطبقات :
طبقة أمريكية قائمة (اعتراض/ استطلاع/ قيادة)، طبقة باكستانية إضافية (قوات، خبرة، رسائل نووية ضمنية)، ومحاولات عربية لبناء قدراتٍ ذاتية تدريجياً.
النتيجة : زيادة تكلفة المخاطرة على الخصوم، دون بلوغ “استقلال عملياتي” كامل.
رابعآ : الاعتمادية كقيدٍ حضاري..
تاريخ المنطقة يُظهر أن استيراد السلاح دون صناعةٍ داخلية ومنظومات صيانة وتعليمٍ تقني يجعل القوة مستعارةً لا مُمتلكة.
منطق الدولة فوق منطق الجماعة :
يتجه الاتفاق إلى “بناء دولة تملك مفاتيح القوة” لتراكم الردع الحقيقي.
الاتفاق السعودي – الباكستاني أداةٌ لتحسين الموقع التفاوضي وتكثيف قدرة الردع، لا تذكرة خروجٍ من الاعتمادية البنيوية.
الأمم التي لا تمتلك أدوات قوّتها ستظلّ “تحرس أمن الآخرين بسلاحٍ مستعار”.
الطريق إلى السيادة الدفاعية يمرّ عبر الصناعة، التعليم، وتعدّد مصادر التقنية والتمويل.
احتفلوا بالخطوة كإشارةٍ استراتيجية، لا كبديلٍ عن مشروع الاستقلال الطويل.
وما لم يُستثمر الاتفاقُ بوصفه منصّة بناءٍ ذاتي، فستبقى “العاطفة” أعلى من “الواقع”… والواقع لا يرحم.