
بين نموذج ينجح وآخر يتعثر .. السؤال الذي لا يجد الناسُ له جوابًا !!..
الدكتور/ خالد بن عبدالرحيم الزدجالي
يعيش الناس اليوم مفارقة صارخة يتداولها الجميع في المجالس ووسائل التواصل : جهات حكومية استطاعت أن تبني نموذجًا محترمًا وفعّالًا في تقديم خدماتها، وأخرى ما تزال تتعثر في أبسط الإجراءات التي تُعد بديهية في أي مؤسسة تقدم خدمة عامة. لم يعد الحديث مزاجًا عامًا أو انطباعات متفرقة؛ بل واقع يواجهه كل من يحاول إنجاز معاملة بسيطة أو الحصول على خدمة أساسية دون معاناة.
أبرز الأمثلة التي يذكرها المواطنون هو النموذج الأمني الذي تمكن، رغم حساسية قطاعه وتشابك مهامه، من تحقيق نقلة نوعية واضحة : معاملات الجوازات، البطاقة الشخصية، خدمات المرور، الأحوال المدنية—جميعها تعمل اليوم ضمن منظومة مترابطة، سريعة، وواضحة. الأنظمة الإلكترونية فيها ليست واجهة تجميلية بل أدوات تشغيل حقيقية تجعل المراجع يشعر بأنه جزء من خدمة مُقدّرة، لا مجرد رقم في طابور طويل.
الأهم من التقنية هو أسلوب التعامل : استجابة فورية، متابعة حقيقية، تدخل مباشر عند وجود أي إشكال، وتواصل يعبّر عن احترام وقت الناس. ولهذا تكونت لدى المجتمع صورة ذهنية إيجابية مفادها أن هذه المؤسسة تُدير خدماتها بجدية، وأن المراجع ليس عبئًا، بل محور العملية كلها.
هذا النجاح يفتح الباب إلى سؤال مشروع : إذا تمكن قطاع بالغ الحساسية والدقة من تحقيق هذا المستوى، فلماذا تتعثر جهات أقل تعقيدًا في تنظيم مواعيدها، أو الرد على استفسارات مراجعيها، أو حتى فتح أبوابها؟!.
في المقابل، تتكرر في مؤسسات مدنية أخرى تجربة مرهقة تبدأ منذ اللحظة الأولى :
أبواب مغلقة، مكاتب محصنة، حراس يمنعون الوصول، وتعامل يجعل المواطن معلَّقًا بين أعذار لا تنتهي :
“المسؤول مشغول”،
“في اجتماع”،
“تعال الأسبوع القادم”،
“أرسل بريدًا”.
لكن البريد يصل… ولا يأتي الرد!.
والطلب يُرفع… لكنه لا يُتابَع!.
وكأن المطلوب أداء إجراء شكلي لا أكثر!.
يزداد التناقض وضوحًا حين تُطالب هذه الجهات المواطنين باستخدام منصات إلكترونية لتقديم الشكاوى، بينما المنصات تعمل باتجاه واحد فقط: المواطن يرسل، ولا أحد يرد. لا تحديث للحالة، لا إشعار بالاستلام، ولا مؤشر على أن الطلب قُرئ أصلًا. وهكذا تتحول التقنية من وسيلة تسهيل إلى بوابة صامتة تُعمّق الفجوة بدل أن تجسرها.
وفي مؤسسة أخرى تأخذ القصة شكلًا أشد إرباكًا: يقدم المواطن طلبه ويظن أنه يسير في مساره الطبيعي، ثم بعد سنة أو أكثر يتلقى إشعارًا بأن “الطلب ناقص”. السؤال البديهي هنا : أين كانت المؤسسة طوال هذا الوقت؟!.
يعود المراجع ليجمع الأوراق مرة أخرى، ويقدمها بثقة لأن الموظف يؤكد أنه سيرفع الطلب فورًا. تمضي الشهور، ليكتشف صاحب الطلب أن الملف لم يُرفع أصلًا، لأن الموظف “نسي” قبل خروجه في إجازة.
هذه ليست مجرد هفوة، بل مؤشر على خلل مؤسسي يجعل مصير معاملات الناس رهنًا لاجتهاد فردي لا لنظام واضح.
أما القطاع الصحي فالصورة فيه أكثر حساسية وأكثر إيلامًا؛ ينتظر المريض ستة أشهر أو عامًا ليقابل استشاريًا محددًا بالاسم، لكنه حين يحضر الموعد يفاجأ بأن الاستشاري غير موجود.
يتكرر المشهد ذاته مع كل زيارة : طبيب جديد، تقييم جديد، وغياب مستمر للطبيب الذي انتظر لأجله. مرة واحدة قد تُفهم، لكن حين يصبح الأمر نمطًا ثابتًا، يتحول إلى مساس جوهري بحق المريض في رعاية مستقرة؛ المريض لم ينتظر عامًا كاملًا ليحصل على تقييم متقطع من أطباء يتبدلون كل زيارة.
ما يكشفه هذا التباين الكبير بين نموذج منضبط ونماذج متعثرة هو أن المشكلة ليست في الموارد ولا في الأنظمة، بل في الإرادة المؤسسية : وضوح الرؤية، صرامة المتابعة، وتقدير وقت الإنسان. النموذج الأمني يثبت يومًا بعد يوم أن التطوير ممكن، وأن جودة الخدمة العامة ليست معجزة بل قرار.
الناس لا يطلبون شيئًا خارقًا :
يريدون أبوابًا مفتوحة لا مغلقة،
وموظفًا يستمع فعليًا لا شكليًا،
ومنصةً إلكترونيةً تفعل ما وُجدت له،
ومعاملة تُنجز لا تُعلّق،
وحقًا صحيًا مضمونًا لا لقاءً عابرًا بطبيب جديد كل مرة.
السؤال الذي يتردد اليوم ليس اعتراضًا، بل عتب محبّ يرى أمامه نموذجًا ناجحًا ويتمنى أن يمتد هذا النجاح إلى بقية القطاعات. فالمنظومة لا تكتمل بجهة واحدة متقدمة وأخرى متعثرة.
الإدارة الحديثة ليست جزرًا منفصلة، بل شبكة مؤسسات يجب أن تعمل بذات الروح والمستوى والمعيار.
الخدمة العامة ليست منّة، وليست تفضّلًا، بل حق أصيل وواجب مؤسسي يجب أن يظهر في كل مكان، لا في قطاع دون آخر.
والسؤال الذي لا يجد الناس له جوابًا يبقى قائمًا : إذا كان النجاح ممكنًا وموجودًا أمامنا…
فلماذا لا نراه في كل الجهات؟!.










