بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

بين المجد والمحنة.. حينما علم البحر عمان أسراره القديمة

د. محمد السيد يوسف لاشين

أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد

 

 

في الجنوب الشرقي من الجزيرة العربية، حيث تمتدّ الجبال كأنها أذرع تعانق البحر، وحيث يلوّن الأفقُ غروبًا يستريح فيه النهار بين الموج والرمال، هناك ولدت حكايةٌ لا تشبه غيرها.
إنها حكاية عُمان مع البحر… حكايةٌ طويلة تتشابك فيها رائحة اللبان بصوت الموج، وتمتزج فيها خطوات التجار بصلابة البحّارة، وتتقاطع فيها حضارات من الشرق الأبعد إلى الغرب الأقصى.

لم يكن البحر للعُماني نافذةً فحسب؛ بل كان معلمًا، ورحابة، ومصيرًا كتب على صفحاته تاريخًا يستحق أن يُروى.

في زمنٍ كانت الطرق البرية مرهقةً ومحدودة، تحوّل البحر إلى جسرٍ يصل عُمان بالدنيا كلها. فمن موانئ صحار ومسقط وصور انطلقت السفن محمّلةً بما اشتهرت به البلاد؛ اللبان الذي عُدَّ كنزًا مقدسًا، والنحاس الذي دخل في صناعات الشعوب، والتمر الذي حمل معه مذاق الواحات العربية.

وبالمقابل، عادت السفن محمّلةً بما يفتح أبواب الثراء: الحرير الصيني، الفخار الهندي، التوابل الآسيوية، والأحجار الكريمة. هكذا أصبح اقتصاد عُمان متحوّلًا من محليّ محدود إلى اقتصادٍ عالمي تتفاعل فيه الأسواق وتزدهر بفضل حنكة تجّارها وخبرتهم.

في عُمان، لم يكن بناء السفن مجرد صناعة؛ كان فعلًا من أفعال الإيمان. كانت الأيدي النحيلة تنحت أخشاب السواحل لتصنع “الغنجة” و”البدن” و”البوم”، سفنًا لا تخشى أمواج المحيط، ولا ترتجف أمام المسافات البعيدة.وكانت الموانئ مثل قلوب نابضة: صرير الحبال، نداءات النواخذة، ورائحة الأسماك، وصوت التجار وهم يساومون على بضائع جاءت من آلاف الأميال.

هكذا تحوّل البحر إلى ورشةٍ مفتوحة، وإلى مدرسةٍ تتعلّم منها الأجيال سر الملاحة، ودهاء الرياح، وأسرار النجوم التي تحدّد الطريق.

لم تكتفِ عُمان بتصدير تجارتها، بل صدّرت روحها أيضًا. فحين وصلت سفنها إلى شرق أفريقيا، حملت معها اللغة العربية، والدين الإسلامي، والرحمة التي اشتهر بها العُمانيون. وتأثّر العمانيون بدورهم بثقافات أفريقية وآسيوية، فدخلت إلى بلادهم كلمات جديدة، وعادات مختلفة، وأساليب عمرانية وفنية زادت المجتمع ثراءً وتنوّعًا. لقد كان البحر بوابةً لتشكّل حضارةٍ مشتركة، لا عربيّة خالصة ولا أفريقية خالصة، بل مزجٌ جميل بينهما. ومع ازدهار التجارة البحرية، لم تعد عُمان مجرد محطةٍ صغيرة بين المحطات. بل أصبحت قوة إقليمية تخشاها الدول الكبرى.

في عهد اليعاربة، تحررت الموانئ من الاحتلال البرتغالي، ثم تحوّلت عُمان إلى دولة بحرية تمتدّ من الخليج العربي إلى سواحل أفريقيا الشرقية.

وفي عهد البوسعيديين، بلغت الإمبراطورية العُمانية ذروتها حين أصبحت زنجبار عاصمةً ثانية للدولة، ومركزًا تجاريًا يربط المحيط الهندي من شماله إلى جنوبه.

كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا تجارةٍ بحرية صنعت من العُماني رجلَ بحرٍ لا يهاب العواصف.
وكعادة الأمور لم يكن البحر فقط طريقًا للثروة، بل كان أيضًا بوابةً للغزاة. فالبرتغاليون حين أدركوا أهمية موقع عُمان، اندفعوا نحوها ليسيطروا على طرق التجارة، فاحتلوا موانئها وسيطروا على طرقها البحرية. تسبب الاحتلال في تراجع التجارة، وتضرر الموانئ، وتشتت التجار، وخلقت مرحلة من الصراع العسكري والسياسي الذي دفع الثمن فيه الشعب العُماني وهو يدافع عن أرضه وشرفه.

كان البحّار العُماني يعرف جيدًا أن الرحلة ليست نزهة، بل مغامرة محفوفة بالموت. فالزوابع المفاجئة قد تُغرق السفن، والقراصنة قد ينهبون ما عليها، والجوع والعطش قد يقتلان الركاب قبل أن يصلوا إلى سواحل آمنة. ورغم ذلك، خرجوا إلى البحر لأن الحياة على اليابسة كانت تعتمد على شجاعتهم. تلك الاغترابات الطويلة أثرت على الأسر، فالأب يغيب أشهرًا وربما عامًا كاملًا، والنساء يتحملن أعباء البيت، والأطفال ينتظرون عودة الرجال الذين قد يعودون… وقد لا يعودون.

ومع ازدهار التجارة، ظهرت طبقة غنية من التجار، امتلكت سفنًا كبيرة ورؤوس أموال ضخمة. بينما بقيت فئات أخرى تعمل كعمّال بحر أو فلاحين أو حرفيين فخلق ذلك تفاوتًا اجتماعيًا بين من يملكون ومن لا يملكون، رغم أن المجتمع العُماني ظل في عمومه متماسكًا بفعل الروح القبلية والدينية، إلا أن آثار التفاوت لم تكن غائبة.

ولأن الاقتصاد العماني اعتمد كثيرًا على التجارة البحرية، فقد كان عرضةً للتقلبات السياسية. إذا اندلعت حرب في الهند، تأثر سوق عُمان. وإذا اشتدّ صراع في شرق أفريقيا، تعطلت التجارة. ومع كل أزمة بحرية، كان الاقتصاد العماني يعود خطوة للوراء، في مشهد يشبه موجةً تنحسر بعد أن ارتفعت عاليًا.

إن التجارة البحرية القديمة لم تكن مجرد فصل تاريخي في سيرة عُمان، بل كانت روحًا سكنت الجبال والسواحل والبيوت صنعت هوية، وشكّلت حضارة، وولّدت طبائع الصبر والشجاعة والانفتاح على الآخر.ورغم ما حملته من مخاطر ومحن، فإن أثرها الإيجابي يبقى هو الأعمق والأبقى، لأنها صنعت دولةً استطاعت أن تحوّل موقعها الجغرافي إلى قوة سياسية واقتصادية وثقافية. ولا تزال سفن الماضي، في ذاكرتنا، تمخر عباب التاريخ، تعلّمنا أن البحر مهما كان قاسيًا، فإنه يهبُ للذين يفهمونه مجدًا لا يزول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى