
من بغداد إلى طشقند.. جسور ثقافية لا تموت
من سلسلة: أوزبكستان بعين العربي – بقلم د. محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد
حين تتأمل الخريطة التاريخية، تجد أن بغداد كانت قلب الشرق العربي النابض، وطشقند إحدى محطاته التي امتدت إليها نسائم الحضارة، وحملت معها عبق الكتب والخطوط والشعر والعلوم. لقد كانت هذه المدن جسورًا ثقافية تربط بين الحاضر والماضي، بين الشعراء والفلاسفة، بين القلوب المتعطشة للعلم والحكمة.
لقد أسست الحضارة الإسلامية هذه الجسور منذ القرن الثامن الميلادي، حينما هاجر العلماء والتجار والصوفيون بين الشرق والغرب، وامتد أثرهم حتى آسيا الوسطى. في طشقند وسمرقند، تجد أثر هذه الهجرة في: المكتبات العتيقة التي احتوت مخطوطات بغداد، ومنها كتب الفقه والحديث والطب والفلسفة.
المساجد والمدارس التي تبنت أساليب التدريس العربية، محافِظة على روح التعلم العميق، كما كانت في الأزمنة الذهبية لبغداد. الشعراء والمفكرين الذين جمعوا بين التراث العربي والأدب المحلي، فأنتجوا نصوصًا تمثل جسرًا بين حضارتين.
إن العرب لم يغادِروا آسيا الوسطى جسديًا فحسب، بل تركوا علامات روحية وفكرية كالخط العربي الذي يزين القباب والمآذن وكذلك تراكيب اللغة العربية التي نُقلت إلى المدارس والمكتبات وكذلك الشعر والنثر الذي جمع بين الوجد العربي وروح الطبيعة الأوزبكية.
وفي كل ذلك، يظهر أن الحضارة لا تعرف حدودًا سياسية، ولا تذوي مع الزمان، بل تظل حيّة في العقول والقلوب. في طشقند اليوم، يمكن للطالب أن يقرأ النص العربي بنفس الشغف الذي كان يشعر به طالب في بغداد قبل قرون، وكأن الزمن لم يكن سوى جسرٍ ممتد.
من زاوية نقدية، يمكن القول إن هذه الجسور الثقافية:
لم تنجُ بفعل الصدفة، بل بفضل الوفاء للعلم والمعرفة وقدرتها على الصمود أمام تحولات السياسة والاجتماع والاقتصاد وهي مثال حي على أن الحضارة الحقيقية تبني نفسها على الإنسان والمعرفة، لا على حدود الأرض والجغرافيا.
ولا يخفى على الدارس أن هذه الجسور لم تكن ثنائية فقط، بل متعددة:
التجار العرب نقلوا اللغة والتقاليد،
العلماء نقلوا المعرفة والفكر،
الشعراء نقلوا الجمال والروح.
وبهذا المعنى، يصبح الالتقاء الثقافي بين بغداد وطشقند أكثر من مجرد تاريخ؛ إنه درس حيّ لكل حضارة، مفاده أن ما تُبنى على المعرفة والإبداع والإنسانية لا يموت، بل يزداد إشراقًا مع مرور الزمن.
إن قراءة هذه الجسور تجعل القارئ يشعر أن الحضارة العربية ليست بعيدة عن آسيا الوسطى، وأن اللغة والفكر والفن يمكن أن تتخطى الجغرافيا، لتصبح جسورًا بين القلوب والعقول، بين الأمس واليوم، بين الأرض والسماء.











