بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

حين تتحول الحرية إلى فوضى – الميديا العشوائية

د. محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد

 

 

 في عصرٍ تتسارع فيه وسائل الإعلام والاتصال، لم يعد الوصول إلى المعلومة أو الصورة أو الخبر أمرًا صعبًا. لكن هذا الانفتاح الواسع ترافق مع ظاهرة خطيرة تُعرف بـ الميديا العشوائية؛ أي ذلك التدفق غير المنظم للمحتوى عبر منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية دون ضوابط مهنية أو معايير أخلاقية. هذه الظاهرة، وإن بدت في ظاهرها تعبيرًا عن الحرية والانفتاح، إلا أنها أفرزت العديد من الظواهر الاجتماعية السلبية التي باتت تهدد استقرار المجتمع وتماسكه.من أبرز سلبيات الميديا العشوائية انتشار الأخبار الكاذبة والشائعات.

فالمعلومة لم تعد تمر عبر قنوات التحقق التقليدية، بل تُنشر بسرعة البرق عبر منصات التواصل، لتصل إلى آلاف وربما ملايين المتابعين في دقائق معدودة. هذا التضليل يؤدي إلى فقدان الثقة بين أفراد المجتمع، ويزرع الشك في المؤسسات الرسمية والإعلامية، ويخلق حالة من الارتباك الجماعي. الميديا العشوائية ساهمت في بروز ما يُعرف بـ “نجوم اللحظة”، حيث يمكن لأي شخص أن يصبح مشهورًا عبر مقطع قصير أو صورة مثيرة للجدل، بغض النظر عن القيمة الفكرية أو الأخلاقية لما يقدمه.

هذه الشهرة السريعة خلقت نماذج سطحية يتابعها الشباب، مما أدى إلى انحراف الذائقة العامة نحو الترفيه المبتذل بدلًا من المحتوى الهادف.المحتوى غير المنظم كثيرًا ما يحمل رسائل تتعارض مع القيم الاجتماعية والدينية والثقافية.

ومع تكرار التعرض لهذه الرسائل، يبدأ الفرد في تبني أنماط سلوكية جديدة قد تُضعف ارتباطه بهويته الأصلية. وهكذا تتحول الميديا العشوائية إلى أداة لتذويب الخصوصيات الثقافية، وخلق جيل يعيش في حالة من الاغتراب عن مجتمعه. الإفراط في متابعة المحتوى العشوائي أدى إلى عزلة اجتماعية واضحة.

فبدلًا من التفاعل المباشر بين الأفراد في المجالس أو اللقاءات، أصبح الكثيرون يعيشون داخل “فقاعة رقمية”، يتواصلون عبر الشاشات أكثر مما يتواصلون وجهًا لوجه. هذه العزلة تضعف الروابط الأسرية وتقلل من فرص الحوار البنّاء بين الأجيال.

من أخطر ما تنتجه الميديا العشوائية هو تطبيع السلوكيات غير المقبولة عبر تكرار عرضها في مقاطع الفيديو أو الصور. فالعنف اللفظي، التنمر، الاستهزاء، وحتى بعض الممارسات غير الأخلاقية، باتت تُعرض بشكل متكرر حتى أصبحت مألوفة لدى المتابعين، خاصة فئة المراهقين.

هذا التطبيع يهدد القيم التربوية ويضعف الرقابة الذاتية. ولمواجهة هذه الظاهرة، لا بد من تكاتف الجهود بين المؤسسات الإعلامية، والجهات التعليمية، والأسر. وعلى مؤسسات التربية الإعلامية تعليم الأجيال كيفية التحقق من المعلومات، والتمييز بين المحتوى الهادف والمحتوى المضلل. و دعم المنصات التي تقدم محتوى موثوقًا وهادفًا، وإبرازها كبديل عن الميديا العشوائية.

ولا يمكن إغفال دور الرقابة الذاتية التي من شأنها غرس قيم المسؤولية في استخدام وسائل التواصل، بحيث يدرك الفرد أن ما ينشره قد يؤثر على الآخرين. كذلك السعي لتنظيم فعاليات أدبية وفنية تعيد التوازن للذائقة العامة، وتمنح الشباب نماذج إيجابية للاقتداء.الميديا العشوائية ليست مجرد ظاهرة تقنية، بل هي قضية اجتماعية وثقافية تمس جوهر المجتمع. فهي قادرة على تشكيل العقول، وتغيير السلوكيات، وإعادة صياغة القيم. وإذا لم تُواجه بوعي جماعي وإجراءات عملية، فإنها ستظل تصنع ظواهر سلبية تُضعف الهوية وتفكك العلاقات وتشوّه الذائقة.

إن مسؤولية التصدي لها تقع على الجميع: الإعلام، الأسرة، المدرسة، والمجتمع بأسره، حتى تبقى الكلمة أداة بناء لا وسيلة هدم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى