بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

العربية في قلب سمرقند.. قصة حروف تتنفس من جديد

من سلسلة: أوزبكستان بعين العربي 

د. محمد السيد يوسف لاشين أستاذ علم الاجتماع والتفكير الناقد

 

حين تخطو إلى قلب سمرقند، المدينة التي لم تفقد عبق التاريخ رغم صخب الأزمنة، تشعر أن لكل حجر فيها حكاية، ولكل زقاق صوت. وسط هذا المشهد التاريخي المهيب، تزهر تجربة فريدة: تعليم اللغة العربية في بلدٍ لا يتحدث العربية كلغة يومية، لكن قلبه ينبض بتاريخ إسلامي طويل وحضارة غنية.

اللغة العربية في أوزبكستان ليست مجرد حروف، بل جسر بين الحاضر والماضي. في مدارس سمرقند وبخارى، وفي المراكز الثقافية، تُعلّم الحروف كما تُعلّم القلوب: بحب، وصبر، وفن. الطلاب هناك لا يدرسون العربية كقيد، بل كمسار لفهم نصوص القرآن، والشعر الكلاسيكي، وأدب الرحلة، وكنوز الحضارة الإسلامية.

لقد لاحظت التجربة أن تعلّم العربية في قلب آسيا الوسطى يشبه العزف على آلة موسيقية قديمة: تحتاج الأصابع إلى صقل، والحواس إلى تنسيق، والقلب إلى انفتاح على روح الكلمات.

من بين الأسماء التي تُعنى بهذه التجربة، نجد مؤسسات تعليمية محلية تتعاون مع الجامعات العربية لتوفير الكتب والمناهج، وتحويل التعلم إلى تجربة حية. كثير من الطلاب، بعد أشهر قليلة، يبدأون بفهم التراكيب اللغوية كما يفهمون الموسيقى، ويشعرون بالمتعة في صياغة الجمل، وملاحظة إيقاع النصوص، وتذوق معاني الشعر العربي.

ولعل أكثر ما يلفت النظر هو تفاعل الطلاب مع التراث العربي والقرآني فالقرآن يُقرأ يوميًا في المدارس ومعه تُدرس البلاغة والفقه والنحو بطريقة تجعل الطالب يعيش المعنى لا مجرد يحفظ الكلمات.

الشعر العربي الكلاسيكي يُقدّم كنصوص حية، تُقرأ بصوت، وتُحلّل بأسلوب يحاكي المتعلم ليصل إلى روح النص. إن تجربة تعليم العربية هنا ليست تعليمًا تقليديًا جامدًا، بل رحلة في اللغة والحضارة والروح. إنها رحلة تجعل الطالب الأوزبكي يكتشف أن العربية ليست لغة الآخرين، بل لغة قلبه أيضًا، لأنها لغة الكتاب الذي حفظ التاريخ الإسلامي في هذه البلاد.

من زاوية نقدية، يمكن القول إن نجاح تعليم العربية في أوزبكستان يعود إلى الجمع بين الأصالة والتجديد: الأصالة في الالتزام بنصوص التراث، التجديد في أساليب التدريس التي تحترم روح الطالب وفضوله الطبيعي، وتربطه بالتاريخ والحياة اليومية.

ومن منظور أوسع، هذه التجربة تحمل رسالة لكل من يدرس العربية أو أي لغة أخرى في بلد غير ناطق بها إن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل أداة لبناء الشخصية وفهم العالم، وجسرًا بين القلوب والثقافات.

في نهاية اليوم، حين يغادر الزائر أحد هذه الصفوف، يلمس شيئًا لا يُرى: إشراقة فكر متفتح وروح متعطشة للجمال والمعرفة. هذا هو السحر الحقيقي للغة العربية في قلب سمرقند: أن تجعل الحروف تتنفس، والكلمات تغني، والطلاب يرقصون مع الحروف كما ترقص النسمات بين قباب المدينة الزرقاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى