بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأتِيَ مِثْلَه..

مـيّـاء الصَّـوّافِـيَّـة

 

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأتِيَ مِثْلَه..

 

تحمل أيها الإنسان الكفوف الزهرية المضيئة ناشرا شيئا من شذاها، مولّدا انبساطا من بعد انقباض، مضيئا بها القناديل من بعد العتمة والظلام، وإني أرى فعلك هذا لغيرك لا لك؛ فأنت في فهمك الضيق، وعقلك المحدود لا تجعل نفسك تستفيد من محامل الخير ، ولا من أوعيته الكثيرة .. تحمل كفوف الزهر ونحن لا نشم منك إلا ما يضاد الطيب؛ فلا نتنسم منك إلا الخبيث، وإن مددنا اليد طالبين عونك فما نرى سجيتك إلا المنع، فأنت أشبه ببستان مخضرّ به ما به من الأُكل لكن ليس نفعه لصاحبه، وإنما هذا النفع لغيره، أو كأموال لا تفيد صاحبها، وإنما يستفيد منها الغير، وينطبق حالك، وما ينطوي عليه مع قول الله تعالى : “أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ” من سورة البقرة ( الآية ٤٤)؛ فحمل أسلوب الاستفهام في هذه الآية الكريمة معنى التوبيخ للإنسان حين يكون حاله وهو يأمر غيره بالصلاح ولكنه يجانب هذا الصلاح، ويدعو إلى صنوف البر وهو لا يحرك ساكنا بالقيام بها، ولا يوجّه يديه لدرء السوء عن نفسه، أو لكسب سبب من أسباب وجوه الخير؛ فكان الأولى به أن ينتقع هو أولا، ويدعو نفسه، ويحملها إلى كل ما من شأنه أن يرفع من ميزانه، ويجعله منارة في أخلاقه.

وإني حين أمعن النظر في منشورات وسائل التواصل الاجتماعي تصيبني من الدهشة ما يصيبني، فترى من يأتي بالذنب، وينصح الغير بتركه، وكأن لسان حاله يقول بأن الناس لا علم لهم بأخلاقه، وهو بهذا في جهل في أن أخلاقه غير معلومه لديهم، وما أخلاقه إلا تعامل اقتضت به طبيعة الإنسان كإنسان، وقد عَلمَها الناس عنه من خلال تعامله معهم، وتستبين الأنفس خبايا أخلاقه من خلال جملة من السلوكيات المكررة، والتي غدت كطبيعة ثمّ كسلوك ثم كخلق معروف لدى من يتعامل معهم من الناس.
وهذا يحمل معنى قول الشاعر زهير بن أبي سلمى :
ومهما تكن عند امرء من خليقة ..
وإن خالها تخفى على الناس تعلم.

وهو إن كان مشمّرا مستعدا لفعل ما يدعو إليه يكون بذلك قدوة للغير، ومحفّزا لهم للسير على طريقه، وستأتيه حتما الصفوف ملبية لتوجيهاته، ونصائحه عاقدة العزم لمناصرته وتأييده، ويصدق قول أبي الأسود الدؤلي حين قال :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ..
عار عليك إذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غَيِّها ..
فإن انتهت عنه فأنت حكيم

أليس لنفسك عليك حق؟
فالأولى هي نفسك باتباع كل ما من شأنه أن يرفعها إلى مراتب السمو والخير، فازجرها إن لاقت في طريق الضلال انجذابا، وأعنها إن رأيتها تحث الخطى للخير .. إبدأ بنفسك، وكن أنت القدوة، وإماما في ما تدعو إليه، فأنت إن طبقت توجيهاتك ونصائحك، ورغائبك الصحيحة ستستوعبها أكثر ؛ فتكون قادرا على إخراجها بشكلها الصحيح للناس، ودعوتهم للاقتداء بها.

كذلك نرى صنوفا من الناس يدعون إلى الأمانة وفي رأيهم أن الأمانة نقيضها السرقة فقط، أي الأمانة الظاهرة دون أن يكون حرصهم على أمانة القلب والضمير والمسؤولية؛ فنراهم يتسترون بثوب الأمانة الظاهرة؛ فهم لا يطيلون اليد سلبا أو نهبا، لكنهم على محور التقصير يكون فعلهم، وذلك في أعمالهم، وفي علاقاتهم بمن هم مسؤولون عنهم، فبعض المسؤولين يأمرون بإحكام العمل، والإتيان به على أكمل وجه، لكننا نرى بأنه يرمي بعض مسؤولياته على غيره من العاملين، كذلك البعض يدّعي بأنه أمين لكنه إذا استدان مبلغا من المال فإنه يماطل في إرجاعة، وهناك من لا يرجعه في الأصل.

وإذا ما تمعنا نجد أن هناك فئة من المربين يرفعون شعارات كيف نربي الأبناء تربية صالحة مثالية بعيدة عن التزمت وغيره، لكننا لو رأيناه كيف يربي أبناءه نجده لا يسير إلى ما دعا إليه.

وهذه أبيات لأبي المتوكل الليثي يصف فيها بأن النصح الذي يكون للغير، وليس للنفس كمثل الدواء الذي لا يستفيد منه صاحبه حيث قال :
يا أيها الرجل المعلم غيرَه ..
هلّا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضَّنا ..
كيما يصح به وأنت سقيم.

بتنا في زمن الأخلاق المقنعة، وأخلاق المصلحة متناسين بأن أساس الدين هو التقوى، وما التقوى إلا الخوف من الله في السر والعلن، وتهذيب النفس حتى تكون في حالة من النقاء النفسي والروحي والأخلاقي .. يُظْهِرُ خارجها ما في داخلها، ويشفّ ظاهرها عن باطنها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى