بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

من جَدّ وجَد”

مـيّـاء الصَّـوافِـيَّـة

 

“من جد وجد” هذه العبارة لطالما ترددت على مسامعنا واختلفتْ إليها نظرة متلقيها، وتفاوتَ وقعها من إنسان إلى آخر؛ فالمجتهد كإنسان سواء أكان طالبا حريصا على بناء مستقبله يتحين الفرص، ويفترش بساط الزمن من أجل السمو بعلياء طموحه، أو حتى مجِدٍّ في موقع آخر من مواقع الاجتهاد سينظر لهذه العبارة بنظرة المتفائل، وبالوجه المستبشر، وبالنظرة المغطاة بالاطمئنان، وسيبني لها في عالم رؤيته بناء يعج بالجمال يطير به إلى دنيا الإنجاز العظيم، أما إنْ سمعها متقاعس سواء أكان طالبا، أم إنسان في موقع من مواقع الحياة سيعي ماذا تعني له هذه الكلمة! وربما لن يعيرها أذناً واعيةً، وقلباً متفهماً، وعقلاً متيقظاً.

“من جد وجد”؛ سأناقش هذه العبارة من منظور التعليم والتعلم في رأيي فإن من جدّ ليس حتما سيجد المستوى العالي الذي يطمح إليه، وليس حتما أن يستلقي على آرائك التفوق، أو يجد باب التميز مفتوحا له على مصراعية، و ليس شرطا أن تعلق أوسمة التميز وشاراته على صدره لكن حتما أن الله لن يضيع جهده؛ سيجده في شيء آخر غير النتيجة المتوقعة والخط المشابه للجد.

فمن منظوري من جد كطالب علم سيجد نتائجا عديدة سيجد التفوق المحفز العالي، وربما سيجد النجاح القريب من التفوق، أو حتى النجاح البعيد عنه، أو سيجد نتيجة مرضية تتناسب مع حياته، أو سيجد بعض الزرع في أرض جده، أو يجدها أرضا خاوية لم تؤت أكلها وكأنَّها لم ينمُ البذر فيها، وسيعلم مع مرور الوقت بأن الله لم يضع جهده؛ سيجده في شيء آخر في عطاء يناسبه، ومِنَّة إلهيه تتلائم مع حياته ومطالبه، وفي عمل يعطيه صحبة فيه راغبة وعلاقات جميلة مع نفوس راقية.

ولكن بمَ يجد المجد ليجد ما يطمح إليه؟ عليه أن يجد بما يتناسب مع مزاياه ومواهبه وبيئة وجوده العام، وفيما يرى نفسه، وفيما يميل إليه؛ فلا يوجه نفسه إلى علم لا يتناسب مع فهمه ووعيه، أو بيئة تخالف معدنه وطينته، وطبيعته، وبهذا سيجد بعد اجتهاده ثمرة جده، وسينهل لاحقا من مصب جهده، ولكن أحيانا لا يجد هذه الثمرة وهذا النتاج الذي يطمح إليه .. مهما حاول من أسباب، وطرق من أبواب، وحرك الحصى من الجبال وفي الجبال فما الأسباب؟

هذا مصداقا لما قاله الشافعي :
ورزقك ليس ينقصه التأني
وليس يزيد في الرزق العناء

فنفهم من هذه البيت بأن التأني والتخاذل ليس دليلا على عدم جني الخير والفائدة، وليس المتابعة والعناء في كسب العلم والرزق والأمل شرطا في الحصول على المبتغى، والظفر بالجائزة، والابتسامة الفائزة .. فليس شرطا أن يجد المجتهد ثمرة اجتهاده، والباحث عن منصب ومرتبه أن يهتدي لضالته، والسائر على الدرب أن يجد واحته الغناء.

وهذا ما يؤكده لنا أيضا ابن زيدون في شعره حين قال :
ولكم أجدى قعود
ولكم أكدى التماس
ولقد ينجيك إغفال
ويرديك احتراس
ليس حتما أن ينفع ويجدي التماسنا للشيء في الحصول عليه؛ فربما إن لم نسعَ إليه يأتِ إلينا، ومن هذا نفهم بأن هذا رزق مكتوب عند الله – عزوجل- فكل مسير لما خلق له.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة” رواه مسلم. هذا الحديث يجعلك ألا تفقد إيمانك إن لم تجد ما اجتهدتَ عليه فكل شيء في علم الله – تعالى- والله يختار لك ما هو الأنسب لك، وإن لم تجد ما تطمح إليه ستجد شيئا آخر هو الأنسب لك.

إن طالب العلم – أحيانا – لا يجد ثمرة جده واجتهاده في التفوق والمستوى العالي .. فما الأسباب؟ منها أسباب ذاتية : عدم الثقة بالنفس، والقلق والتوتر، وتشتت الانتباه؛ فحتى وإن بدأ لنا طالب العلم مجدا لكنه يخفق بسبب عدم ثقته بقدراته وبسبب قلقه وتوتره حين أدائه للورقة الامتحانية، أو حين شروعه في مقياس من مقاييس التقوييم والقدرات؛ فربما لا يرقى لمستوى التفوق الذي سهر الليالي لأجله، وعقد العزم للوصول إليه، وشمر الساعد للعمل فيه؛ فنجده يخسر الكثير من الدرجات والمستويات؛ إذن لادخل بالجد في تدني المستوى التحصيلي.

ومنها أسباب خارجية : كعدم توفر بيئة تعليمية مناسبه لمستوى الطالب العقلي والتفسي، وكذلك المشاكل المنزلية والمدرسية، فكل هذا كمعاول هدم، وكعوائق تحيل بينه وبين أن يجد ما يطمح إليه. إذن ليس كل من جدّ وجدّ، وليس كل من سار على الطريق وصل، وهذا من باب الخصوص لا العموم، وفي جانب المواساة لا المحاباة، ودعوة للتفاؤل لا للتخاذل، فإنما على الإنسان أن يبذل ما في وسعه ليجد ثمار جهده، فإن وجدها فهذا شيء طبيعي، وأمر بدهي، والسعي مذكور في القرآن؛ ليجني الإنسان قطوف سعيه، وإن لم يجد فربما لظروف أعاقته من الوصول إلى طموحه، ولأن الخير في شيء آخر لا يعلمه هو، وفي مكان ثان لا يدرك محيطه، وفي زمان مختلف لا يحيط بوقته، وفي أمر أفضل قد كتبه الله له.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى