
الاستثمار الطبي والتهميش في القطاع الخاص..
زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عُماني مهتم بالشأن السياسي الإقليمي
استوقفتني تغريدةٌ كتبها الطبيب خالد الشموسي في منصة «أكس» بتاريخ 3 سبتمبر 2025، وانتشرت فيما بعد بكثرة عبر تطبيق الواتساب. وبقدر ما كانت كلماتُها موجعة فقد كانت أيضًا صادقة، وربما اختصرت معاناة شريحة واسعة من أبناء الوطن الذين يحاولون أن يثبتوا أنفسهم في القطاع الخاص. يقول إنه من واقع خبرته وعمله في المجال الصحي فإنّ «معاناة المستثمر العُماني في القطاع الصحي كبيرة ومتكررة»، وتساءل: «ماذا يعني أن تكون مستثمرا (…) في القطاع الصحي… وماذا يعني أن تكون مستثمرًا عُمانيًّا؟ وهل نحتاج واسطة في كلِّ شيء؟».
حكى الدكتور خالد الشموسي معاناته في أكثر من قضية، منها طلباته العديدة لاستقدام أطباء عرب مختصين في الجهاز الهضمي، ودائمًا تُرفض بلا مبرر واضح. وفي مقابل ذلك تُعامل المؤسسات الأجنبية الأخرى معاملة خاصة، «وكأنّ هناك تسهيلات خاصة أو تأثيرات خارجية تجعل القبول لهم أمرًا يسيرًا، بينما يُثقل كاهل المستثمر العُماني بالطلبات التعجيزية، والتطبيقات المتعددة التي لا تنتهي».
حقيقةً؛ تساؤلُ الدكتور خالد في محله، وهو تساؤل كلِّ المجالس في عُمان؛ ففي الوقت الذي تزداد فيه معاناة المواطنين من التضييق عليهم في الرزق والعمل والتسريح تُفتح الأبواب على مصاريعها للأجانب لدرجة أن يشكلوا (لوبيات) تحارب المواطنين في كلِّ شيء، ولم يعد الأمر سرًا، بل جهرًا وعلانيةً، وهذا الأمر يجعلني في حيرة شديدة؛ إذا كانت معاناة المواطنين تدور على ألسنة الناس في المجالس وفي مواقع التواصل والمنتديات فهل يعلم بها المسؤولون؟ وهل هم منقطعون عن متابعة ما يدور وما يحدث في المجتمع؟!.
المنطق يقول: إنه يفترض تقديم كلِّ العون للمواطنين، ولكن الذي يحصل هو عكس ذلك تمامًا؛ فما نشره الدكتور خالد الشموسي فيه من الأدلة ما فيه؛ إذ يقول: إنه على مدى 12 شهرًا كاملة حاول بكلِّ جدية وإصرار افتتاح مركز طبي في ولاية بركاء، وتردد عشرات المرات على وزارة الصحة ومديرية المؤسسات الخاصة، لكنه واجه سلسلة من الطلبات المتكررة من بينها «إلزامنا بعمل تخطيط ثلاثي الأبعاد للمبنى، وهو مطلب غير مألوف، ولا يُفرض عادةً على أيِّ مؤسسة أخرى». وليس ذلك كلّ شيء؛ فمع كلِّ مخطط جديد يطلبونه تُدفع مبالغ إضافية، ومع كلِّ تأخير تتأجل فرص لتوظيف الشباب العُماني الباحثين عن عمل، ومع كلِّ تعقيد بيروقراطي يترك بعض المستثمرين العُمانيين المحاولة؛ لأنّ الطريق تبدو بلا نهاية، – كما يشير خالد -. «الأسوأ من ذلك أنّ الطلبات لا تُعطى دفعة واحدة، بل تُفرض بالتقطير: في كلِّ مخطط يظهر طلبٌ جديدٌ لم يُذكر سابقًا، وكأنّ الغاية هي إنهاك المستثمر العُماني وإحباطه». وما النتيجة النهائية؟ يجيب الشموسي عن هذا السؤال بالقول: إنّ «القطاع الصحي أصبح ميدانًا يكاد ينفرد به المستثمر الأجنبي، بينما يُحرم العُماني من أبسط التسهيلات التي تُمنح لغيره».
تغريدة الدكتور خالد فتحت بابًا واسعًا للنقاش العلني حول ما يعانيه العمانيون من تهميش ومحاربة، وصل إلى «درجة الاضطهاد» داخل شركات القطاع الخاص. ومعظمُ هذه الشركات الآن تحت هيمنة المستثمر الخارجي. وعندما أقول: «نقاشًا علنيًّا» فأنا أعني ما أقول تمامًا؛ إذ إنّ النقاش الخاص حول (اللوبيات) الأجنبية هو نقاش خاص في كلِّ المجالس الآن، ولا يكاد بيت في عُمان لم يعانِ من مشكلة في هذا الجانب.
إذا كانت تغريدة خالد الشموسي عن تجربته الخاصة فلا يعني ذلك أنها قضية شخصية، بل أصبحت الآن قضية رأي عام تحتاج إلى وقفات من كلِّ الجهات: لماذا يُثقل المستثمر العُماني بالطلبات والتعقيدات بينما تُفتح الأبواب لمؤسسات أجنبية بسهولة؟ ومن يحمي مصالح المستثمر المحلي في وجه البيروقراطية والتأخير؟ لا يخفى على أيِّ أحد أنّ المواقف العُمانية المشرِّفة تجاه القضية الفلسطينية والاستقلالية في اتخاذ القرار أغضبت الكثيرين. (وخالد الشموسي نفسه أحد الرموز المضيئة في هذا الجانب بعد أن تطوّع لعلاج المرضى في غزة). ومواقفُ عُمان المشرِّفة – مثل هذه – تتطلب تحصين الداخل؛ إذ إنه هو المهم. فلا يُعقل في الوقت الذي نتوقع فيه هجومًا من الخارج أن تتفاقم مشكلات الشباب العُماني في الداخل، وكلها في الأصل بسيطة تحتاج إلى اتخاذ قرار فقط. فهناك قصص صامتة كثيرة عن معاناة الشباب العُماني في القطاع الخاص، منها ما روته لي إحدى المواطنات عن معاناتها – وبعض زميلاتها – داخل الشركة التي تعمل بها.
قالت: إنّ مسؤولي الشركة طلبوا من بعض الفتيات العُمانيات -وهي ضمنهن- أن يوقعن على رسالة تفيد بعدم قدرتهن على العمل طبيًّا مقابل راتب قدره 200 ريال شهريًّا، ويجلسن في المنزل، والهدفُ – كما قالت – استقدام قوى عاملة وافدة لتحل محلّهن، وعندما اشترطت على المدير الأجنبي أن تأخذ صورة من الطلب رفض، والآن هي مضطهدة من قبل رؤسائها وشبه مجمدة، وترى أنّ «مستقبلها في العمل في كف عفريت».
وهذه الممارسة في الواقع انتهاكٌ صارخٌ لحقوق العامل العُماني، وتتناقض كلّ التناقض مع سياسة التعمين التي تسعى إلى تمكين الكفاءات الوطنية في كلِّ القطاعات. فبحسب المرسوم السلطاني رقم ٥٣ / ٢٠٢٣؛ فإنّ أيَّ إجراء يُجبر العامل على ترك عمله دون مبرر قانوني، أو يُمارس عليه ضغط غير مشروع يُعد مخالفة صريحة تستوجب المساءلة القانونية. كما ينصُ المرسوم على حظر التمييز في بيئة العمل، وضمان حقِّ العامل في بيئة آمنة وعادلة تشمل الأجر المناسب، والحماية من الفصل التعسفي، والحق في التظلم.
لا يمكن إنكار أنّ بعض الشركات الخاصة تُدار فعليًّا من قبل مجموعات خارجية لها مصالحها الخاصة، وتُمارس نفوذًا غير مباشر على قرارات التوظيف والترقية والمكافآت وغير ذلك. ولم يعد هذا النفوذ خافيًّا أو سرًا، لكن الأمر الغريب هو أنّ المسؤولين عن الأمر يمكن اعتبارهم في حالتين لا ثالثة لهما: إما أنهم لا يعلمون، وهذه في ذاتها مصيبة، وإما أنهم عاجزون عن اتخاذ القرار، وكأنهم مغلوبون على أمرهم، وهنا المصيبة أكبر.
بعد قراءتي للردود على تغريدة الدكتور خالد الشموسي، – وهي ردود تعطي مؤشرًا للوضع، وتدفعنا لقراءته وتحليله – أقول: ما نحتاجه اليوم ليس مجرد الرد على التغريدة بكلمات إنشائية لا تسمن ولا تغني من جوع، أو التفكير في إسكات الشموسي، لكننا نحتاج إلى قرارات جريئة حول تمكين العُمانيين في القطاع الخاص، وضمان بيئة عمل عادلة وجاذبة ومحفزة للكفاءات الوطنية. كما أننا نحتاج إلى حماية الاستثمار المحلي من التهميش، وحماية الموظف العُماني من الإقصاء، وإعادة التوازن إلى معادلة النفوذ داخل الشركات. أما إذا كانت الشركات ستعمل على إقصاء العُماني وإحلال الأجنبي محله فلا داعي لها أصلًا، وإقفالها أولى.