
ثمة ضوء يزهر في العتمة..
ياسمين عبدالمحسن إبراهيم
المدير التنفيذي لشركة رواق الابتكار
مدربة في مجال اكتشاف وتطوير المهارات
مهتمة بمجال تطوير الأعمال
الإنسان مهما توهّم الاكتفاء بذاته، يظلّ في أعماقه مثل قنديلٍ خافت الضوء، يحتاج إلى نسمة هواء كي يشتعل من جديد، نحن لسنا جزرًا معزولة كما ندّعي، بل قلوب عطشى تبحث عن قطرة تقدير، عن كلمة تفتح شبابيك الروح، عن نظرة تقول دون صوت: أنت بخير، أنت كافٍ، أنت جميل في هيئة حضورك.
ما أعجب أثر الكلمة الطيّبة!
قد تُقال عفوًا في لحظةٍ عابرة، لكنها تسكن في الروح دهراً كاملاً، كلمة “أحسنت” تُشبه مفتاحًا صغيرًا يُدار في قفلٍ صدئ، فيفتح أبوابًا كانت مغلقة على القلب، وعبارة “شغلك رائع” ليست جملة إنشائية، بل نهر سرّي يروي صحراء الجهد الذي كاد يتشقّق عطشًا، أما قول: “أنت جميل” فهو مرآة تُعيد للمرء صورته كما يراها الآخر بعين الحب، لا كما تراها عين النقد المتعبة.
الحياة قاسية بما يكفي، متاهة من همومٍ ومنازعاتٍ وصمتٍ يثقل الكتف، فما أحنّ أن يمرّ في هذه المتاهة شخصٌ يشعل لك شمعة، لا ليفتح لك الطريق كلّه، بل ليقول لك إنّ الظلام ليس قدرك الأبدي، إنّ الدعم النفسي في اللحظات الحالكة، يتحوّل إلى نقشٍ خالد في جدار الذاكرة، قد تُنسى المواعيد، وتضيع التفاصيل، لكن كلمة صادقة قيلت عند الانكسار تبقى تُضيء العمر كلّه.
اللطف ليس مجاملة اجتماعية ولا زخرفًا لغويًا، بل هو فلسفة حياة، هو قرار أن تكون نسيمًا يهبّ في القيظ، لا ريحًا تعصف بما تبقّى من استقرار، هو أن تختار أن تكون جسرًا للآخرين لا جدارًا يسدّ دروبهم، في كل لمحة تقدير، هناك بذرة حياة تُزرع في قلبٍ كان على وشك الذبول، وفي كل كلمة تشجيع، هناك جناح يخرج من بين أكتافٍ مثقلة، فيعلّمها الطيران من جديد.
ما أجمل أن ندرك أنّ الكلمة الطيّبة لا تُلقيها الرياح هباءً، بل تعود في دورة كونية عجيبة، ربما تشجّع اليوم شخصًا يائسًا، فيغدو غدًا هو اليد التي تنتشلك من غرقك، ربما تبتسم لقلبٍ مرهق، فيكون ذلك القلب ذاته باب رزقٍ أو سندًا غير متوقّع في أصعب الظروف، إنّه قانون الروح : ما تزرعه من لطفٍ يعود إليك، ولو بعد حين، مضاعفًا كأزهارٍ تتفتّح على غير موعد.
فلا تبخلوا بالكلمات، ولا تؤجّلوا الإشادة، ولا تستصغروا قيمة الإيماءة، إنّ حياة الناس أثقل من أن تُعاش بصمتٍ بارد، وأخفّ من أن تُغرقها قسوةُ اللامبالاة، إنّنا جميعًا، مهما اختلفت أعمارنا ومناصبنا، ما زلنا أطفالاً في دواخلنا، نحتاج من يربّت على أكتافنا ويقول: أنت رائع، كنت شجاعًا، أنا فخور بك.
إنّ أعظم الهدايا ليست الذهب ولا المناصب، بل تلك اللحظة التي يُذكّرك فيها أحدهم بأنك تُضيء، ولو خفتَ نورك عن عينيك، الدعم النفسي، اللطف في التعامل، الكلمة الصادقة، هذه هي الأثر الباقي، هذه هي الشموس الصغيرة التي لا تغيب.
فلنُهدهد أرواح من نحبّ بكلمة، ولنُمسك قلوبهم كما يُمسك المرء زهرةً يخشى عليها من الريح، فربما كانت جملة صغيرة منّا هي ما يجعل نهارهم ألين، وليلهم أقلّ وحشة، دعونا نكون للعالم قلوبًا تمشي على الأرض، تنثر الطمأنينة في العيون، وتترك خلفها أثرًا يُشبه ضحكة طفل أو دفء أمّ… أثرًا لا يُنسى.