بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

حارة الرمل “3” “نساء حارة الرمل في ذاكرة المكان وقلب الزمان”

بقلم: أ. عصام بن محمود الرئيسي
مؤلف سلسلة كتاب “مختارات من البروتوكول والإتيكيت”

 

 
عزيزي القارئ في المقال الأول من هذه السلسلة، بدأنا حديثنا عن “حارة الرمل… دروس في السلوك الراقي”، حيث تعرّفنا إلى القيم النبيلة التي صاغت سلوك الإنسان في تلك الحارة القديمة، من حياءٍ وتعاونٍ واحترامٍ متبادل. أما في المقال الثاني، فقد أخذنا القلم في رحلةٍ طبوغرافية بعنوان “ملامح طبوغرافية وحكايات من سفح الجبل”، استعرضنا من خلالها كيف شكّلت الجغرافيا ملامح المكان، وكيف تكيّف الإنسان مع تضاريسه وبيئته.

وفي هذا المقال الثالث، نُسلّط الضوء على “المرأة في حارة الرمل”، تلك التي كانت القلب النابض للحارة، وصاحبة البصمة اليومية التي لا تُرى إلا بعين التأمل. نتأمل كيف كانت تقوم بأدوار متعددة في بيئةٍ قاسية، لا تملك فيها الكثير من الوسائل الحديثة، لكنها تملك الكثير من الصبر والحب والدقة والقدرة على التحمّل. سنقترب قليلا من تفاصيل حياتها اليومية، مساندة للزوج، في صورة ناصعة لامرأة عاشت في قلب الجبل، وتربّت في كنفه، وكانت دومًا شامخة بشموخه، دافئة كالرمل، نبيلة كالحارة التي سكنتها.

هكذا كانت المرأة العُمانية بشكل عام وكعادتها على مر الأزمان مثالاً نادرًا في التفاني، إذ وهبت وقتها وجهدها لأسرتها بحب، ولوطنها بإخلاص، فكانت العمود الصلب في بيتها، والسند الصامت في مجتمعها، تسهم في البناء دون ضجيج، وتغرس في الأجيال قيم الصبر والعطاء والانتماء.

وفي حارة الرمل لم تكن المرأة مجرد فرد في الأسرة، بل كانت عمودها، ونبضها، وروحها التي لا تهدأ. كانت تبدأ يومها منذ بزوغ الفجر، فتكنس ساحة المنزل (الحوش)، وتغسل الأواني، وتهتم بتربية أبناءها، وتنفخ النار وتعد الإفطار ثم تنطلق لجلب الماء وغسل الأواني من الفلج، في مشوار شاقٍ لكنه مألوف، صعودًا وهبوطًا من الجبل وخاصة أفراد تلك الأسر التي كانت تقطن في أعلى الجبل وقد يكون مشوارها مرتين في اليوم، صباحًا ومساءً. ولا يقتصر الهدف على جلب الماء فحسب، بل أيضًا لغسل أواني الطعام في مجرى الفلج، بعد الوجبات.

وفي امتداد ساقية الفلج تتبادل الأحاديث والمواقف مع باقي نساء الحارة في لحظات من الهدوء الاجتماعي والتواصل الإنساني الجميل. هذا الطقس اليومي، المرهق ظاهريًا، كان يحمل في جوهره أبعادًا من النظام والانضباط، والتعاون الأسري، وتوزيع الأدوار بين أفراد العائلة، حيث يعرف كل فرد مسؤوليته ويتقنها.

ومن المناظر الجميلة التي لا تُنسى، أن ترى النسوة وهي تحمل ‘الجَحْلة’ الفخارية على إحدى يديها، والتي كانت وسيلة تبريد طبيعية تحفظ برودة الماء في بيئة حارة، وتحملها المرأة بكل أناقة وسلاسة الى الفلج لتنظيفها لتملأها بالماء، لتروي بها عطش الأسرة، وكأنها تحمل نبعًا صغيرًا من العطاء وفي رأسها أيضا ‘الهاندوه’ المعدنية وهو ذلك الإناء المعدني اللامع، فكانت تلازمها أيضا في مختلف المهام اليومية من شرب وغسل وتنظيف، وتعتبرها رفيقة وفية لا تفارقها وهي تضعها على رأسها التي تتوازن فوق ‘الكِتّاه’ وهي حلقة دائرية منسوجة يدويًا من خيوط القطن أو ليف النخيل وملفوفة بقماش لين أو بسعف النخيل لا تسقط رغم وعورة الطريق أو انحدار الممرات وطول المسافة الى مكان الفلج، وكأنها تاج من الصبر والعزيمة. وتمشي بثقة واتزانٍ مدهش، دون أن تميل أو تسقط. مشهد يتكرر يوميًا لكنه يبقى استثنائيًّا في دلالاته، حيث يُظهر مهارات فطرية اكتسبتها المرأة العُمانية منذ الصغر في معظم الحارات العمانية، نابعة من توازن داخلي، وخطوات مدروسة، وموروث من الرشاقة العملية. لم تكن تلك الأواني مجرد أدوات منزلية، بل كانت رموزًا لحياةٍ عفوية، تنبض بالمسؤولية والكرامة. وقد شكّلت مع مرور الزمن أحد التفاصيل التراثية الجميلة التي تُروى وتُحفظ في ذاكرة الأجيال.

لم تكن المرأة في حارة الرمل منشغلة فقط بشؤون البيت والعمل، بل كانت أيضًا حريصة على عبادتها، مواظبة على صلواتها، صابرة في أدائها، ورفيقة للقرآن الكريم في فترات الخلوة والتأمل. كانت ترى في التربية عبادة، وفي غرس القيم رسالة. فدفعت بأبنائها إلى الكتاتيب ليتعلموا القرآن والفقه والسلوك القويم، تؤمن بأن العلم هو زاد الإنسان في الدنيا والآخرة، وكانت توصي أبناءها بالتقوى والأدب، وتجعل من بيتها مدرسةً أولى للفضيلة والانضباط.

وفي الأعياد، كانت لمسة المرأة العُمانية حاضرة في أدق التفاصيل. لم تكن تعتمد على الخياطين كما هو شائع اليوم، بل كانت هي الخياطة والمصمّمة، تفصّل لأبنائها وبناتها ملابسهم بيديها، وتغزل الفرحة بخيوط الحب والصبر. كانت الإبرة في يدها أداة حياة، تُحيك بها الأناقة وتزرع في قلوب أبنائها الشعور بالتميز والاعتزاز.

وهكذا، لم يكن العيد يُشترى من الأسواق، بل يُصنع في البيوت، حيث كانت الأمهات ينسجن البهجة بخيوط من الوفاء والمهارة. ولم تكن آلة الخياطة اليدوية الصغيرة التي قد تكون حاضرة عند بعض الأسر، مجرد أداة؛ بل كانت رفيقة لليالي الساهرة.

لقد كانت هذه الأدوات جزءًا لا يتجزأ من هوية المرأة العُمانية في حارة الرمل، شاهدة على دأبها، واتزانها، ودورها الجوهري في صيانة البيت وإحياء تفاصيله، دون أن تشتكي أو تتذمّر، بل بأداء يشبه الطقوس، وبروحٍ مغموسة بالرضا والفخر.

في زمن تغيّرت فيه الأدوات والوسائل، تبقى القيم هي الثابتة. وتبقى صور أمهاتنا وهنّ يعملن بجهد وتفاني، شاهدًا حيًا على عصر من النقاء، والجهد الشريف، والتفاني الصادق. لم يكن ذلك الجهد مقتصرًا على مهمة واحدة، بل كان انعكاسًا لدورٍ متكامل قامت به المرأة العُمانية في بيتها ومجتمعها: تنظف وتُربّي، تنفخ النار وتطهو وتغسل، تواسي وتؤازر، وتدير شؤون الحياة بكل حكمة وهدوء.

شئنا أم ابينا فإن الجيل الماضي من النساء، هنّ من صاغن الأمل في وجدان هذا الوطن، وهن مصدر فخر لا يُمحى من وجدان الأجيال. وبأيديهن الطاهرة ورباطة جأشهن، صنعن جيلًا تعتز به عُمان، جيلًا نهل من قيم العطاء، والحياء، والانضباط، فكانوا امتدادًا لتاريخ مشرف، ووعدًا لمستقبل زاهر ومتجدد.
وعلى الخير نلتقي، وبالوفاء نرتقي …
 

‫2 تعليقات

  1. ما أحلى الذكريات المعطرة بالتعاون و التكافل ورفع الهمة والنشاط والحيوية التي كانت المرأة العمانية تقوم بها لمساعدة أخيها الرجل العماني وخاصة أثناء بناء منزل جديد ودورها القائم في إحضار الماء من فلج البلد في الماعون المحمول على الرأس بالماء وشكرا لك أخي أبا عبدالله على ذكر تلك السلوكيات الإيجابية التي يجب أن تتحلى بها المرأة الحاضرة

  2. (لم يكن العيد يُشترى من الأسواق، بل يُصنع في البيوت)

    حديثك عن المرأة جاء راقيًا وملهمًا
    فقد أظهرت تقديرًا عميقًا لدورها وجمال حضورها
    في مشهد الحياة في الزمن الجميل .
    شكرًا لك ابو عبدالله على هذه الرحلة الأدبية الرائعة التي مزجت بين الذكريات والاحترام، وبين الإبداع والوفاء.🤍⚘️

اترك رداً على علي بن سعيد بن راشد الكلباني إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى