
الموساد في قلب إيران : أين كانت الرصاصات التسع؟!
زاهر بن حارث المحروقي
كاتب مهتم بالشأن السياسي الإقليمي
العدوان الصهيوني والأمريكي على إيران فتح أبواب النقاش على نقاط كثيرة، منها – إن لم يكن أبرزها – نجاح جهاز «الموساد» الإسرائيلي في اختراق إيران وتنفيذ ضربات موجعة داخل أراضيها، طالت قيادات بارزة وعلماء نوويين ومواقع عسكرية حساسة، ممّا أثار تساؤلات منطقية عن أسباب إخفاق الأجهزة الأمنية الإيرانية في كشف وتعقب «جواسيس» الاستخبارات الإسرائيلية طوال السنوات الماضية.
هناك عبارة منسوبة للثائر الأرجنتيني الأممي تشي جيفارا أنه قال: «إذا أردْتَ تحرير وطن، فاحشُ مسدسك بعشر رصاصات؛ تسع منها لخونة الوطن، وواحدة لعدوك، فلولا خونة الداخل ما تجرأ عدو الخارج على وطنك». في تصوّري أنّ جيفارا بعبارته القصيرة تلك لخّص الموضوع برمته؛ فما حصل في إيران يدلّ على أنّها تأخرّت كثيرًا في إطلاق رصاصاتها التسع على خونة الداخل، لأنّ حجم الاختراق الإسرائيلي كبير، لدرجة أنه يمكن للمرء أن يشك في أيِّ أحد. والحقيقة الظاهرة للعيان أنّ كلّ تلك الاعتقالات التي حدثت للمشكوك في خيانتهم، ثم إعدام بعضهم لم تطَل إلا صغار القوم ولم تقترب بعد من القامات الكبيرة المتنفذة، القريبة من موقع صنع القرار. كلّ تلك الاعتقالات والإعدامات تثير سؤالًا مهمًا: أين كانت السلطات الإيرانية من هذا الموضوع حين حذّر الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد في 21 يونيو 2021 في مقابلة متلفزة، من أنّ أعلى مسؤول في إيران عن مكافحة التجسس كان جاسوسًا لإسرائيل؟!. كان الرئيس نجاد يتحدّث حينها عن نجاح الموساد في الاستيلاء على أهمِّ الوثائق النووية والفضائية من مراكز حساسة، في عملية أقرب إلى أفلام هوليوود، وتساءل – كما نتساءل -: «هل كانت ورقة واحدة ليضعوها في جيوبهم ويفروا، لقد كانت شاحنات من الوثائق، فكيف فرّوا من البلد، مع كلِّ نقاط التفتيش الموجودة، كيف غادرت العديد من الشاحنات المحملة بالوثائق البلاد؟».
لقد كشف يوسي كوهين رئيس الموساد الأسبق تفاصيل العملية، بعد أن وصلت كلّ تلك الوثائق إلى الكيان الإسرائيلي، في مقابلة مطولة مع البرنامج الاستقصائي «يوفدا» (الحقيقة) في القناة 12 الإسرائيلية، موضحًا أنّ تلك العملية تمّت بشكل سري في 31 يناير 2018. وعمليةٌ كبيرةٌ كهذه تكفي بأن تجعل أيَّ دولة في العالم تهتز وتقيم محاكمات وانتفاضات، وتُجري تغييرًا في القيادات العسكرية والأمنية وغيرها؛ لكن الذي حصل هو عكس ذلك تمامًا، إذ نجح الكيان في اختراق إيران من العمق، فاستمرت عمليات اغتيال العلماء، والتفجيرات في المواقع العلمية، وإسقاط الطائرات، واغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في غرفة نومه داخل مقر للحرس الثوري، هذا غير الوصول إلى حسن نصر الله بعد اختراق إيران، وما أُعلن بعد العدوان الصهيوني من الاختراقات الأمنية لإيران لهو شيءٌ خطيرٌ فعلًا، من ذلك إعلان الشرطة الإيرانية اعتقال 18 عميلًا للكيان الإسرائيلي كانوا يعملون على تصميم وتصنيع طائرات تجسسيّة وانتحارية مسيّرة في ورشة في مشهد، ولولا يقظة بعض المخلصين، فإنّ الخطة الإسرائيلية كانت تقتضي قتل كلّ القيادات الإيرانية في ليلة الهجوم على إيران، وأظنّ أنها كانت قريبة من تحقيق ذلك الهدف؛ فالكيان الإسرائيلي تكفّل بالجو وترك أمر الأرض لعملائه في الداخل، أكد ذلك مسؤول إيراني كبير بحجم رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف حين قال : «إنّ جزءًا كبيرًا من هجمات العدو ليست عسكرية، بل تُنفَّذ عبر عناصر مندسة في الداخل».
وإذا كان المثل يقول : «أن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألا تأتي أبدًا»، فإنّ صحوة إيران ضد العملاء والجواسيس – بقدر ما جاءت متأخرة – إلا أنها فرصة لتطهيرها من ذلك «الاختراق الكبير»؛ فالحملةُ شملت اعتقال أكثر من 700 شخص في 12 يومًا، مع إعدام البعض منهم، ولكن مهما يكن فإنّ ذلك الرقم يبقى صغيرًا أمام حجم الاختراق.
ويقودُنا الموضوع إلى طرح سؤال آخر – لأنّ ما تعرّضت له إيران من اختراق، يحصل مع دول كثيرة – ما هو الدافع الذي يجعل من مواطنين، يعملون لصالح دول أخرى على حساب الوطن؟! وقد أجابت عن هذا السؤال وسائل إعلام إيرانية رسمية حين أوضحت أنّ الاستخبارات الإسرائيلية تستغل نقاط الضعف الاجتماعية والاقتصادية لهذه المجتمعات خاصة الأقليات، ومعرفتها المحلية العميقة لتجنيد عملاء يستخدمون تطبيقات الرسائل المشفرة والعملات المشفرة لنقل معلومات عسكرية ونووية حساسة، وأنّ بعض العملاء تلقوا تدريبًا في دول من بينها جورجيا ونيبال، بترتيب من المخابرات الإسرائيلية. وإذا كنا نفهم – ولا نتفهم – أن يخون المرء وطنه بسبب «نقاط الضعف الاجتماعية والاقتصادية»، فإنّ مالا نفهمه ويثير لدينا تساؤلات كثيرة أن يكون هؤلاء الخونة من الطبقة الكبيرة والمتنفذة والمستفيدة.
هنا تكمن المشكلة خاصة عندما يتعلق الأمر بلقمة العيش، ولكن كيف إذا كان هؤلاء العملاء من الطبقة الكبيرة والمتنفذة والمستفيدة؟!
الاهتمام الإسرائيلي بإيران معروفٌ ومعلنٌ وليس سريًّا، فحسب ما ورد في كتاب «انهض واقتل أولًا : التاريخ السري للاغتيالات المستهدفة في إسرائيل»، تأليف رونين بيرجمان، الصادر في يناير 2018، عن دار «راندوم هانس» للنشر، رسم رئيس الموساد الأسبق مئير داغان، منذ توليه رئاسة الجهاز عام 2002، استراتيجية تضع البرنامج النووي الإيراني في صدارة التهديدات الوجودية لإسرائيل، وانطلاقًا من هذه الرؤية، أعاد داغان هيكلة عمل الموساد ليتركز على هدفين رئيسيين : الأول منع خصوم إسرائيل وفي مقدمتهم إيران من امتلاك قدرات نووية؛ والثاني مواجهة التنظيمات المسلحة كحزب الله وحماس.
وتضمّنت الخطة التي وُضعت عام 2003 استخدام مزيج من أدوات «القوة الخشنة والناعمة»، شملت أنشطة تخريبية داخل إيران، واغتيالات دقيقة لعلماء نوويين، إلى جانب دعم جماعات معارضة وأقليات بهدف زعزعة الاستقرار الداخلي، فضلًا عن دور دبلوماسي مكثف وعقوبات اقتصادية محكمة، كما سعت الخطة إلى عرقلة حصول طهران على المعدات والتقنيات اللازمة لتطوير برنامجها النووي، عبر عمليات اعتراض دولية وتخريب مباشر، وهو ما تجسّد في سلسلة طويلة من الهجمات السيبرانية والتفجيرات في منشآت نووية.
صدر الكتاب مع بدايات عام 2018، أي قبل سبع سنوات من العدوان الإسرائيلي على إيران. وكلُّ ما حصل من اختراق يكاد يكون منشورًا في هذا الكتاب، مما يعيد طرح السؤال الصعب أين كانت إيران؟!
في كلِّ الأحوال؛ هناك نقاشات مستفيضة الآن على أكثر من صعيد حول الاختراقات – ليس على إيران وحدها – بل على دول المنطقة كلها، بعدما طفت على السطح مؤخرًا أحاديث عن تعاون بعض الشركات الآسيوية مع الموساد الإسرائيلي في دول الخليج، والتي تكشّفت جزئيًا بعد العدوان الأخير على إيران. وهذا ملف أمني خطير له ما بعده، وعلى دول المنطقة ألا تنتظر وقوع الفأس على الرأس، كما فعلت إيران.
إنّ كلًّ المعلومات التي كشفتها مصادر إسرائيلية تؤكد أنّ الهجوم على طهران كان ثمرة خطة محكمة وعمليات استخبارية طويلة الأمد، من خلال تجهيز بنى تحتية سرية جرى تفعيلها في اللحظة المناسبة .. فهل تعلمت إيران الدرس جيّدًا؟ وهل استعدت دول المنطقة لما هو آت، وهي الدول التي تعتمد على الشركات الأجنبية وخاصة الهندية في كلِّ شيء؟!.
إنّ موضوع اختراق إيران بهذا الشكل – وهي دولة قوية – يثير القلق لدى الغيورين من أبناء الخليج العربي، وقد تبدى ذلك من خلال بعض المقالات والتغريدات، بعدما تبيّن تعاون الموساد وبعض أجهزة المخابرات الآسيوية، ممّا يشكّل خطورة كبيرة، نظرًا لتغلغل هذه الأجهزة في كلّ المفاصل، ولكثافة عمالة دولة بعينها في المنطقة، في وقت يوجد أبناء البلد المؤهلون في كلِّ المجالات.
والخلاصةُ أنّ الخوف كلّ الخوف، من خونة الداخل وما يسمى بالطابور الخامس، الذين يعيشون على نعم أوطانهم وتكون ولاءاتهم للخارج.